قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى :" قلت : وأما القول في الموالي ، فالحكمة فيه ما تقدم ذكره من جواز نسبة العبد إلى مولاه لا بلفظ البنوة ، لما سيأتي قريباً من الوعيد الثابت لمن انتسب إلى غير أبيه ، وجواز نسبته إلى نسب مولاه بلفظ النسبة ، وفي ذلك جمع بين الأدلة ، وبالله التوفيق " أهـ[69] .
المحاجـة بين القولين عند الإمام ابن القيم
أجرى المحاجة بين القولين باختصار ابن القيم في " جلاء الأفهام " ، فقال رحمه الله تعالى: " …الذريةُ : الأولادُ وأولادهم ،وهل يدخل فيها أولاد البنات ؟ فيه قولان للعلماء ، هما روايتان عن أحمد . إحداهما : يدخلون ، وهو مذهب الشافعي . والثانية : لايدخلون ، وهو مذهب أبي حنيفة .
واحتج من قال بدخولهم : بأن المسلمين مجمعون على دخول أولاد فاطمة رضي الله عنها في ذرية النبي صلى الله عليه وسلم المطلوب لهم من الله الصلاة ؛ لأن أحداً من بناته لم يعقب غيرها ؛ فمن انتسب إليه صلى الله عليه وسلم من أولاد ابنته ، فإنما هو من جهة فاطمة رضي الله عنها خاصة ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن ابن ابنته :" إن ابني هذا سيد " ، فسماه ابنه ، ولما أنزل الله سبحانه وتعالى آية المباهلة :" فمن حاجك فيه من بعد ما جآءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبنآءكم " الآية . دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وحسناً وحسيناً ، وخرج للمباهلة . قالوا : وأيضاً فقد قال تعالى في حق ابراهيم :" ومن ذريته داود وسليمان وايوب ويوسف وهارون وكذلك نجزي المحسنين . وزكريا ويحيى وعيسى"، ومعلوم أن عيسى لم ينتسب إلى ابراهيم إلا من جهة أمه مريم عليها السلام.
وأما من قال بعدم دخولهم : فحجته أن ولد البنات إنما ينتسبون إلى آبائهم حقيقة . ولهذا إذا ولَّد الهذلي أو التيمي أو العدوي هاشمية لم يكن ولدها هاشمياً ، فإن الولد في النسب يتبع أباه ، وفي الحرية والرق أمه ، وفي الدين خيرهما ديناً ، ولهذا قال الشاعر :
بنونا بنـو أبناءنـا وبناتنـا بنوهن أبناء الرجال الأباعد .
ولو وصى أو وقف على قبيلة لم يدخل فيها أولاد بناتها من غيرها . قالوا : وأما دخول فاطمة رضي الله عنها في ذرية النبي صلى الله عليه وسلم ، فلشرف هذا الأصل العظيم والوالد الكريم ، الذي لايدانيه أحد من العالمين ، سرى ونفذ إلى أولاد البنات لقوته وجلالته وعظم قدره ، ونحن نرى من لانسبة له إلى هذا الجناب العظيم من العظماء والملوك وغيرهم تسري حرمة إيلادهم وأبوتهم إلى أولاد بناتهم ، فتلحظهم العيون بلحظ أبنائهم ، ويكادون يضربون عن ذكر آبائهم صفحاً ، فما الظن بهذا الايلاد العظيم قدره ، الجليل خطره ؟!
قالوا : وأما تمسككم بدخول المسيح في ذرية ابراهيم ، فلاحجة لكم فيه . فإن المسيح لم يكن له أب ، فنسبه من جهة الأب مستحيل ، فقامت أمه مقام أبيه ، وهكذا كل من انقطع نسبه من جهة الأب ، إما لعان أو غيره ، قامت أمه في النسب مقام أبيه ، ولهذا تكون في هذا الحال عصبة في أصح الأقوال… " . انتهى كلام ابن القيم [70].
وبالجملة ، فمن التفت إلى التفريق بين مسألة حمل النسب ، ومسألة الذرية والعقب ، وبان له الفرق بينهما ، انحل عنده اشكال مسألة :" أولاد البنات " ودخولهم في الوقف والوصية وغيرها من المسآئل . وبه يظهر الراجح في مسألة " الشرف من الأم " ، والله تعالى أعلم .
وممن قال من الأئمة والفقهاء أن الرجل لايحمل نسب آل البيت الأشراف إنْ لم يكن أبوه كذلك جمعٌ من محققي المذاهب الفقهية الأربعة :
• فقهاء الحنفية :
قال بهذا القول العلامة ابن عابدين الحنفي خاتمة محققي الحنفية في حاشيته ، المشتهرة باسم "حاشية ابن عابدين " [71]. وقد صرّح رحمة الله عليه في الفتاوى الحامدية بأن :" ولد الشريفة ليس بشريف " [72].
• فقهاء المالكية :
في شرح الزرقاني على " خليل " :" و أما ابن الشريفة : فذهب ابن عرفة و من وافقه إلى أن له شرفاً دون من أبوه شريف ؛ و خالفه جمعٌ من محققي المشايخ التلمسانيين ، و ذهبوا إلى أنه شريف مثله " [73] . و منهم : محمد بن عرفة الدسوقي المالكي في حاشيته على " الشرح الكبير " [74].
• قول الشافعية :
جعل السيوطي رحمه الله هذا القول مما جرى عليه السلف والخلف ، فقال في " الحاوي للفتاوى " :" ولهذا جرى عمل السلف والخلف على أن ابن الشريفة لايكون شريفاً " أهـ[75].
وفي " الفتاوى الحديثية " لابن حجر الهيتمي :" … ولهذا جرى الخلف كالسلف على ان ابن الشريفة من غير الشريف غير شريف ، ولو عمّت الخصوصية أن " ابن كل شريفة شريف " : تحرمُ عليه الصدقة ، وليس كذلك…" أهـ[76].
• قول الحنابلة :
قياس المذهب عندهم عدم إثبات النسب الشريف من جهة الأم . و قد تقدم قول ابن حميد الحنبلي في تضعيفه للقول بهذه المسألة ، و هو أحد متأخرة الحنابلة ، و الله أعلم .
و هذا القول ، والله أعلم ، هو الراجح ، ويتأيد ذلك بعدة أمور أخرى غير ما ذكر:
منها : أن القول بأن ولد الشريفة شريف قد جرّ إلى ادعاء النسب الشريف، وتعرض فاعل ذلك لكبيرة من كبائر الاثم ، وذلك أن يدعي الرجل غير أبيه ، كما في الحديث :" ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر بالله ، ومن ادعى قوماً ليس له فيهم نسب فليتبوأ مقعده من النار " رواه البخاري .
ومن قاعدة الشرع سده للذرائع ، وقد أصبح القول بهذه المسألة سبباً لادعاء النسب وحمله على غير المعروف عند النسابين ، ولهذا يجب سد هذا الباب .
وقد وصل الحال في بعض العصور إلى أن يتسنم نقابة الأشراف من لا يحمل نسبهم ، بل قد يُطرد عنها صاحب النسب الثابت ليتولى أمرها من ثبت شرفه من جهة الأم ؟! و من ذلك أيضاً تسلم الشيخ محمد بن أحمد بن محمد المعروف بـ " الدواخلي " الشافعي للنقابة بعد موت محمد بن وفا ، وكان يقال للدواخلي :" السيد " ، وذلك :" لأن أباه تزوج بفاطمة بنت السيد عبدالوهاب البرديني ، فولد له المترجم منها ، ومنها جاءه الشرف ، وهم من محلة الداخل بالغربية " أهـ [77].
ومنها : أن طرد هذا القول يشغب على أصول مستقرة ثابتة في أبواب الفقه ومسائل الشرع ، مثل مسائل الوقف ، والوصايا ، والمواريث ، وسهم ذوي القربى ، وتحريم الزكاة على الآل المحمدي ، وغير ذلك من المسائل والفروع .
ومنها : أن إطلاق لقب " الشريف " أو " السيد " أصبح في العرف مقصوراً على " ذرية الحسنيين" ، أو أحدهما دون الآخر ، أو أن المراد به " كل آل البيت " على خلاف طويل في ذلك ، لا طائل شرعي من تحقيق المراد به ، فالقول بهذه المسألة مما يزيد النزاع في ذلك المصطلح ويوسعه ، و يغير الأعراف شبه المستقرة ، و لا يخفى ما في هذا من محاذير .
كل ذلك مما يتأيد به المنع من حمل النسب الشريف عبر تلك المسألة .
وأما من قال من الأئمة و الفقهاء بأن :" الشرف يثبت لمن كانت أمه شريفة " ؛ فيقال : نعم ، يحصل الشرف لمن حصل له الايلاد من جهة الآل المحمدي لوجود الصلة والرحم بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ولاريب أن في هذا شرفاً لصاحبه ، كما تقدم ذكره في كلام ابن القيم رحمه الله تعالى ، لكن هذا لا يسوغ له شرعاً أن يخاطب ب:" الحسني " ، أو " الحسيني " ، أو حتى :" الشريف " .
و أنت خبير بما تقدم ، أن هناك فرقاً بين حمل عمود النسب الشريف ، ومسألة الشرف ، وأن ذلك مطرد في الشرع والقدر . فإثبات نوع من الشرف لمن حصل له ذلك الايلاد الكريم ، موجود في كلام من منع من حمل عمود النسب الشريف ، فقد صرح ابن عابدين رحمه الله تعالى وغيره بأن الشرف يحصل له ، ولكن يمنع صاحبه من حمل نسب غيره[78] . ولهذا مضت عادة بعض من يترجم لأخبار الناس وسيرهم أن يقول في ترجمة بعض من حصل له ذلك الشرف :" ابن الشريفة " [79]، ولا يقول فيه: " الشريف " ، والله تعالى أعلم .
خاتمة المختصر
ما يتعلق بآل البيت ، سوآءً في الآحكام الشرعية أو المسائل العقدية أو الحديث عن الفرق المنتسبة إليهم أو المتمسحة بعتبات أبوابهم ، أو الكلام في ما يتعلق بتواريخهم و أنسابهم ... كل ذلك و غيره يحتاج إلى بحث علمي طويل بعيد عن الغرض و الهوى ، و أناس كآل محمد لا يليق بهم أن تبحث المسائل المتعلقة بهم على أي وجهٍ كان ، بل لابد من التحقيق و الجمع و استنطاق نصوص الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين ، و تحرير المسائل تحريراً يليق بمثل هذا البيت الشريف الذي لا يوجد على ظهر الأرض بيت يوزايه أو يقاربه في نسبه و منزلته .
و أرجو من الله تعالى أن يكون في هذا المختصر هدى لمن شاء الله رحمته من العباد ، و بلاغاً للحاضر و الباد ، و تنبيهاً لمن يشتغل بنسب آل البيت على غير وجه مرضي ، فإنَّ :" ... النعام في القرى " .
إذا كان أثلُ الواد يجمع بيننا فغيرُ خفيٍ شيحُهُ من خُزَامِه
------------------------------
[55] إعلام الموقعين ( 2 / 65-70 ) ، و الأشباه و النظائر للسبكي ( / ) . و حاشية ابن عابدين ( 2 / 394 ) ، ( 3 / 14 ، 171 ) ، ( 4 / 446- 447 ) .
[56] منهم : ابن عبدالسلام انظر : " المعيار المعرب (12 / ) ، و ابن مفلح في " الفروع : 5 / 529 " فقد رمز للمسألة بـ ( ع ) و يعني بها أنها محل إجماع كما نصَّ على ذلك في أول كتابه . انظر : الفروع ( 1 / 64 ) .
[57] انظر : " الفروع : 5 / 529 " فقد رمز للمسألة بـ ( ع ) و يعني بها أنها محل إجماع كما نصَّ على ذلك في أول كتابه . انظر : الفروع ( 1 / 64 ) .
[58] إعلام الموقعين ( 2 / 66- 67 ) .
[59] الفروع ( 5 / 529 - 530 ) ، و انظر : نيل المآرب في شرح دليل الطالب لابن أبي تغلب ( 2 / 270) .
[60] زاد المعاد ( 5/ 400- 401 ) .
[61] تحفة المحتاج ( 5 / 401 ) . و هي قاعدة تتابع عليها الفقهاء .
[62] الفتح ( 12 / 42 )
[63] الفتح ( 12 / 45 ) .
[64] المعيار المعرب ( 12 / 211 ) .
[65] رواه البخاري ( رقم6762 ) .الفتح ( 12 / 48 ) .
[66] الفتح ( 12 / 55 ) .
[67] الفتح ( 12 / 49 ) . و انظر أيضاً : فيض القدير ( 1 /88 ) . و لهذا قال الإمام أحمد في حديث " موالي القوم من أنفسهم " :" هذا في الصدقة ، لا في النكاح " . قال ابن قدامة :" … ، و لهذا لا يساوونهم في استحقاق الخمس ، و لا في الإمامة ، و لا في الشرف " . أهـ . انظر : المغني ( 9 / 396 ) .
[68] الفتح ( 12 /49 ) .
[69] الفتح (12 / 49 ) .
[70] جلاء الأفهام لابن القيم (ص 203-205)تحقيق : محي الدين ميستو .
[71] حاشية ابن عابدين ( 3 / 14 ، 171 ) .
[72] انظر : الفتاوى الحامدية ( 1/19 ) .
[73] ( 6 / 105).
[74] حاشية الدسوقي ( 4/ 312 ) .
[75] الحاوي للفتاوى ( 2/32 ) ، وانظر : فيض القدير للمناوي ( 5/17 ) .
[76] الفتاوى الحديثية (ص121)
[77] تاريخ الجبرتي ( 3 / 589 ) .
[78] انظر : تنقيح الفتاوى الحامدية ( 1 / 19 ) . و قال في " رد المحتار " عند مسألة " عدم اعتبار التفاوت في قريش في الكفاءة " :" من هذا : أن من كانت أمها علوية مثلاً ، و أبوها عجمي ، يكون العجمي كفؤاً لها ، و إن كان لها شرف ، لأن النسب للآباء ، و لهذا جاز دفع الزكاة إليها ، فلا يعتبر التفاوت بينهما من جهة شرف الأم ، و لم أر من صرح بهذا ، و الله أعلم " . أهـ .( 2 / 319 ) .
[79] الضوء اللامع (2/202 ) .
المحاجـة بين القولين عند الإمام ابن القيم
أجرى المحاجة بين القولين باختصار ابن القيم في " جلاء الأفهام " ، فقال رحمه الله تعالى: " …الذريةُ : الأولادُ وأولادهم ،وهل يدخل فيها أولاد البنات ؟ فيه قولان للعلماء ، هما روايتان عن أحمد . إحداهما : يدخلون ، وهو مذهب الشافعي . والثانية : لايدخلون ، وهو مذهب أبي حنيفة .
واحتج من قال بدخولهم : بأن المسلمين مجمعون على دخول أولاد فاطمة رضي الله عنها في ذرية النبي صلى الله عليه وسلم المطلوب لهم من الله الصلاة ؛ لأن أحداً من بناته لم يعقب غيرها ؛ فمن انتسب إليه صلى الله عليه وسلم من أولاد ابنته ، فإنما هو من جهة فاطمة رضي الله عنها خاصة ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن ابن ابنته :" إن ابني هذا سيد " ، فسماه ابنه ، ولما أنزل الله سبحانه وتعالى آية المباهلة :" فمن حاجك فيه من بعد ما جآءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبنآءكم " الآية . دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وحسناً وحسيناً ، وخرج للمباهلة . قالوا : وأيضاً فقد قال تعالى في حق ابراهيم :" ومن ذريته داود وسليمان وايوب ويوسف وهارون وكذلك نجزي المحسنين . وزكريا ويحيى وعيسى"، ومعلوم أن عيسى لم ينتسب إلى ابراهيم إلا من جهة أمه مريم عليها السلام.
وأما من قال بعدم دخولهم : فحجته أن ولد البنات إنما ينتسبون إلى آبائهم حقيقة . ولهذا إذا ولَّد الهذلي أو التيمي أو العدوي هاشمية لم يكن ولدها هاشمياً ، فإن الولد في النسب يتبع أباه ، وفي الحرية والرق أمه ، وفي الدين خيرهما ديناً ، ولهذا قال الشاعر :
بنونا بنـو أبناءنـا وبناتنـا بنوهن أبناء الرجال الأباعد .
ولو وصى أو وقف على قبيلة لم يدخل فيها أولاد بناتها من غيرها . قالوا : وأما دخول فاطمة رضي الله عنها في ذرية النبي صلى الله عليه وسلم ، فلشرف هذا الأصل العظيم والوالد الكريم ، الذي لايدانيه أحد من العالمين ، سرى ونفذ إلى أولاد البنات لقوته وجلالته وعظم قدره ، ونحن نرى من لانسبة له إلى هذا الجناب العظيم من العظماء والملوك وغيرهم تسري حرمة إيلادهم وأبوتهم إلى أولاد بناتهم ، فتلحظهم العيون بلحظ أبنائهم ، ويكادون يضربون عن ذكر آبائهم صفحاً ، فما الظن بهذا الايلاد العظيم قدره ، الجليل خطره ؟!
قالوا : وأما تمسككم بدخول المسيح في ذرية ابراهيم ، فلاحجة لكم فيه . فإن المسيح لم يكن له أب ، فنسبه من جهة الأب مستحيل ، فقامت أمه مقام أبيه ، وهكذا كل من انقطع نسبه من جهة الأب ، إما لعان أو غيره ، قامت أمه في النسب مقام أبيه ، ولهذا تكون في هذا الحال عصبة في أصح الأقوال… " . انتهى كلام ابن القيم [70].
وبالجملة ، فمن التفت إلى التفريق بين مسألة حمل النسب ، ومسألة الذرية والعقب ، وبان له الفرق بينهما ، انحل عنده اشكال مسألة :" أولاد البنات " ودخولهم في الوقف والوصية وغيرها من المسآئل . وبه يظهر الراجح في مسألة " الشرف من الأم " ، والله تعالى أعلم .
وممن قال من الأئمة والفقهاء أن الرجل لايحمل نسب آل البيت الأشراف إنْ لم يكن أبوه كذلك جمعٌ من محققي المذاهب الفقهية الأربعة :
• فقهاء الحنفية :
قال بهذا القول العلامة ابن عابدين الحنفي خاتمة محققي الحنفية في حاشيته ، المشتهرة باسم "حاشية ابن عابدين " [71]. وقد صرّح رحمة الله عليه في الفتاوى الحامدية بأن :" ولد الشريفة ليس بشريف " [72].
• فقهاء المالكية :
في شرح الزرقاني على " خليل " :" و أما ابن الشريفة : فذهب ابن عرفة و من وافقه إلى أن له شرفاً دون من أبوه شريف ؛ و خالفه جمعٌ من محققي المشايخ التلمسانيين ، و ذهبوا إلى أنه شريف مثله " [73] . و منهم : محمد بن عرفة الدسوقي المالكي في حاشيته على " الشرح الكبير " [74].
• قول الشافعية :
جعل السيوطي رحمه الله هذا القول مما جرى عليه السلف والخلف ، فقال في " الحاوي للفتاوى " :" ولهذا جرى عمل السلف والخلف على أن ابن الشريفة لايكون شريفاً " أهـ[75].
وفي " الفتاوى الحديثية " لابن حجر الهيتمي :" … ولهذا جرى الخلف كالسلف على ان ابن الشريفة من غير الشريف غير شريف ، ولو عمّت الخصوصية أن " ابن كل شريفة شريف " : تحرمُ عليه الصدقة ، وليس كذلك…" أهـ[76].
• قول الحنابلة :
قياس المذهب عندهم عدم إثبات النسب الشريف من جهة الأم . و قد تقدم قول ابن حميد الحنبلي في تضعيفه للقول بهذه المسألة ، و هو أحد متأخرة الحنابلة ، و الله أعلم .
و هذا القول ، والله أعلم ، هو الراجح ، ويتأيد ذلك بعدة أمور أخرى غير ما ذكر:
منها : أن القول بأن ولد الشريفة شريف قد جرّ إلى ادعاء النسب الشريف، وتعرض فاعل ذلك لكبيرة من كبائر الاثم ، وذلك أن يدعي الرجل غير أبيه ، كما في الحديث :" ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر بالله ، ومن ادعى قوماً ليس له فيهم نسب فليتبوأ مقعده من النار " رواه البخاري .
ومن قاعدة الشرع سده للذرائع ، وقد أصبح القول بهذه المسألة سبباً لادعاء النسب وحمله على غير المعروف عند النسابين ، ولهذا يجب سد هذا الباب .
وقد وصل الحال في بعض العصور إلى أن يتسنم نقابة الأشراف من لا يحمل نسبهم ، بل قد يُطرد عنها صاحب النسب الثابت ليتولى أمرها من ثبت شرفه من جهة الأم ؟! و من ذلك أيضاً تسلم الشيخ محمد بن أحمد بن محمد المعروف بـ " الدواخلي " الشافعي للنقابة بعد موت محمد بن وفا ، وكان يقال للدواخلي :" السيد " ، وذلك :" لأن أباه تزوج بفاطمة بنت السيد عبدالوهاب البرديني ، فولد له المترجم منها ، ومنها جاءه الشرف ، وهم من محلة الداخل بالغربية " أهـ [77].
ومنها : أن طرد هذا القول يشغب على أصول مستقرة ثابتة في أبواب الفقه ومسائل الشرع ، مثل مسائل الوقف ، والوصايا ، والمواريث ، وسهم ذوي القربى ، وتحريم الزكاة على الآل المحمدي ، وغير ذلك من المسائل والفروع .
ومنها : أن إطلاق لقب " الشريف " أو " السيد " أصبح في العرف مقصوراً على " ذرية الحسنيين" ، أو أحدهما دون الآخر ، أو أن المراد به " كل آل البيت " على خلاف طويل في ذلك ، لا طائل شرعي من تحقيق المراد به ، فالقول بهذه المسألة مما يزيد النزاع في ذلك المصطلح ويوسعه ، و يغير الأعراف شبه المستقرة ، و لا يخفى ما في هذا من محاذير .
كل ذلك مما يتأيد به المنع من حمل النسب الشريف عبر تلك المسألة .
وأما من قال من الأئمة و الفقهاء بأن :" الشرف يثبت لمن كانت أمه شريفة " ؛ فيقال : نعم ، يحصل الشرف لمن حصل له الايلاد من جهة الآل المحمدي لوجود الصلة والرحم بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ولاريب أن في هذا شرفاً لصاحبه ، كما تقدم ذكره في كلام ابن القيم رحمه الله تعالى ، لكن هذا لا يسوغ له شرعاً أن يخاطب ب:" الحسني " ، أو " الحسيني " ، أو حتى :" الشريف " .
و أنت خبير بما تقدم ، أن هناك فرقاً بين حمل عمود النسب الشريف ، ومسألة الشرف ، وأن ذلك مطرد في الشرع والقدر . فإثبات نوع من الشرف لمن حصل له ذلك الايلاد الكريم ، موجود في كلام من منع من حمل عمود النسب الشريف ، فقد صرح ابن عابدين رحمه الله تعالى وغيره بأن الشرف يحصل له ، ولكن يمنع صاحبه من حمل نسب غيره[78] . ولهذا مضت عادة بعض من يترجم لأخبار الناس وسيرهم أن يقول في ترجمة بعض من حصل له ذلك الشرف :" ابن الشريفة " [79]، ولا يقول فيه: " الشريف " ، والله تعالى أعلم .
خاتمة المختصر
ما يتعلق بآل البيت ، سوآءً في الآحكام الشرعية أو المسائل العقدية أو الحديث عن الفرق المنتسبة إليهم أو المتمسحة بعتبات أبوابهم ، أو الكلام في ما يتعلق بتواريخهم و أنسابهم ... كل ذلك و غيره يحتاج إلى بحث علمي طويل بعيد عن الغرض و الهوى ، و أناس كآل محمد لا يليق بهم أن تبحث المسائل المتعلقة بهم على أي وجهٍ كان ، بل لابد من التحقيق و الجمع و استنطاق نصوص الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين ، و تحرير المسائل تحريراً يليق بمثل هذا البيت الشريف الذي لا يوجد على ظهر الأرض بيت يوزايه أو يقاربه في نسبه و منزلته .
و أرجو من الله تعالى أن يكون في هذا المختصر هدى لمن شاء الله رحمته من العباد ، و بلاغاً للحاضر و الباد ، و تنبيهاً لمن يشتغل بنسب آل البيت على غير وجه مرضي ، فإنَّ :" ... النعام في القرى " .
إذا كان أثلُ الواد يجمع بيننا فغيرُ خفيٍ شيحُهُ من خُزَامِه
------------------------------
[55] إعلام الموقعين ( 2 / 65-70 ) ، و الأشباه و النظائر للسبكي ( / ) . و حاشية ابن عابدين ( 2 / 394 ) ، ( 3 / 14 ، 171 ) ، ( 4 / 446- 447 ) .
[56] منهم : ابن عبدالسلام انظر : " المعيار المعرب (12 / ) ، و ابن مفلح في " الفروع : 5 / 529 " فقد رمز للمسألة بـ ( ع ) و يعني بها أنها محل إجماع كما نصَّ على ذلك في أول كتابه . انظر : الفروع ( 1 / 64 ) .
[57] انظر : " الفروع : 5 / 529 " فقد رمز للمسألة بـ ( ع ) و يعني بها أنها محل إجماع كما نصَّ على ذلك في أول كتابه . انظر : الفروع ( 1 / 64 ) .
[58] إعلام الموقعين ( 2 / 66- 67 ) .
[59] الفروع ( 5 / 529 - 530 ) ، و انظر : نيل المآرب في شرح دليل الطالب لابن أبي تغلب ( 2 / 270) .
[60] زاد المعاد ( 5/ 400- 401 ) .
[61] تحفة المحتاج ( 5 / 401 ) . و هي قاعدة تتابع عليها الفقهاء .
[62] الفتح ( 12 / 42 )
[63] الفتح ( 12 / 45 ) .
[64] المعيار المعرب ( 12 / 211 ) .
[65] رواه البخاري ( رقم6762 ) .الفتح ( 12 / 48 ) .
[66] الفتح ( 12 / 55 ) .
[67] الفتح ( 12 / 49 ) . و انظر أيضاً : فيض القدير ( 1 /88 ) . و لهذا قال الإمام أحمد في حديث " موالي القوم من أنفسهم " :" هذا في الصدقة ، لا في النكاح " . قال ابن قدامة :" … ، و لهذا لا يساوونهم في استحقاق الخمس ، و لا في الإمامة ، و لا في الشرف " . أهـ . انظر : المغني ( 9 / 396 ) .
[68] الفتح ( 12 /49 ) .
[69] الفتح (12 / 49 ) .
[70] جلاء الأفهام لابن القيم (ص 203-205)تحقيق : محي الدين ميستو .
[71] حاشية ابن عابدين ( 3 / 14 ، 171 ) .
[72] انظر : الفتاوى الحامدية ( 1/19 ) .
[73] ( 6 / 105).
[74] حاشية الدسوقي ( 4/ 312 ) .
[75] الحاوي للفتاوى ( 2/32 ) ، وانظر : فيض القدير للمناوي ( 5/17 ) .
[76] الفتاوى الحديثية (ص121)
[77] تاريخ الجبرتي ( 3 / 589 ) .
[78] انظر : تنقيح الفتاوى الحامدية ( 1 / 19 ) . و قال في " رد المحتار " عند مسألة " عدم اعتبار التفاوت في قريش في الكفاءة " :" من هذا : أن من كانت أمها علوية مثلاً ، و أبوها عجمي ، يكون العجمي كفؤاً لها ، و إن كان لها شرف ، لأن النسب للآباء ، و لهذا جاز دفع الزكاة إليها ، فلا يعتبر التفاوت بينهما من جهة شرف الأم ، و لم أر من صرح بهذا ، و الله أعلم " . أهـ .( 2 / 319 ) .
[79] الضوء اللامع (2/202 ) .