كان من ظلم العباسيين ، ومطاردتهم لابناء علي أمير المؤمنين أن خرج بالمدينة الحسين بن علي بن الحسن السبط ابن علي أبي طالب ، وكان مع جماعة من أهل بيته ، منهم إدريس ، ويحيى ، وسليمان بنو عبد الله بن الحسن ، فاشتد أمر الحسين في بده الامر ، وطرد من المدينة عامل الهادي العباسي حفيد المنصور ، وبايع الناس الحسين على كتاب الله وسنة نبيه ، وأقام وأصحابه بالمدينة أياما يتجهزون ، ثم خرجوا إلى مكة للحج ، فقابله هناك جيش الحاكم العباسي يوم التروية الثامن من ذي الحجة ، فقتل الحسين وجماعة من أهل بيته وأصحابه ، وجمعت رؤوسهم فكانت مائه ونيفا ، وكان بيتها رأس سليمان ابن عبد الله بن الحسن المثنى ، وكان مقتلهم بموضع يقال له فخ على ثلاثة أميال من مكة سنة 169 ه ، وإلى ذلك يشير دعبل في تائيته الذائحة النائحة ، كما قال عبد الرحمن الشرقاوي :
أفاطم قومي يا ابنة الخيرواندبي * نجوم سماوات بأرض فلاة
[b]قبور بكـــــوفان وأخرى بطيــــــــبة * وأخـــرى بفــــخ نالها صلــوات
[/b]
يحيــــــى :
أما يحيي فإنه فر من الوقعة المذكورة إلى بلاد الديلم ( 1 ) ، ودعا الناس إلى بيعته فبايعوه ، واشتد أمره ، وقويت شوكته ، فجهز له الرشيد جيشا ضخما بقيادة الفضل بن يحيى البر مكي ، فكاتبه الفضل ، وبذل له الامان ، وكل ما يختار فآثر حقن الدماء ، وأجاب الفضل بعد أن أخذ اليمين المغلظة من الرشيد بخطه ، وأشهد العلماء والاكابر ، وحضر يحيي إلى بغداد ، فأكرمه الرشيد ، وأعطاء مالا كثيرا ، ثم غدر به .
· ( هامش ) * ( 1 ) تقع بلاد الديلم على شواطئ بحر قزوين ، وتشمل كوكان ومازندران ، وطرفا من رشت . ( * ) / صفحة 129 /
إدريــــس :
وأما إدريس بن عبد الله بن الحسن فإنه فر من وقعة فخ إلى مصر ، وكان على بريدها يومئذ رجل يحب آل البيت ، اسمه واضح ، فعلم بإدريس ، فأتاه إلى الموضع الذي كان مستخفيا فيه ، وعرض عليه خدماته ، ولم ير شيئا أخلص له من أن يحمله على البريد إلى المغرب ، ففعل ، ولحق إدريس بالمغرب الاقصى ( 1 ) فنزل بمدينة تدعى " وليلة " ، وكان فيها عامل للعباسيين اسمه إسحاق بن محمد ابن عبد الحميد ، فأجار إدريس وأكرمه وخلع طاعة العباسيين ، وانتهى الخبر إلى الرشيد بما فعله واضح في شأن إدريس ، فقتله وصلبه واجتمعت عليه القبائل من كل وجه ومكان ، وكان أول من بايعه قبيلة. أوربة ، وهي يومئذ من أعظم قبائل البربر بالمغرب الاقصى ، وأكثرها عددا ، ثم تلتها سائر القبائل ، فبايعوه ودخلوا في طاعته ، وعظموه وقدموه على أنفسهم ، فاستتب أمره ، وتمكن سلطانه .
الغـــــزو :
ولما تم له الامر اتخذ جيشا كثيفا من وجوه البربر الاشداء ، وخرج غازيا بلاد تامسنا ، وبلاد تادلا ، ففتح المعاقل والحصون ، وكان أكثر أهل هذه البلاد على دين اليهودية والنصرانية ، فأسلم جميعهم على يده . ثم رجع إلى عاصمته " وليلة " واستراح برهة ، ثم استأنف الغزو على من بقي من قبائل البربر على غير دين الاسلام ، وكانوا متحصنين في المعاقل والجبال المنيعة ، فلم يزل يجاهدهم ، ويستنزلهم من معاقلهم ، حتى دخلوا في الاسلام . وقفل راجعا إلى مقره ريثما استراح جيشه ، ثم كر غازيا على تلمسان ، فخرج إليه صاحبها مستأمنا ومبايعا ، فأمنه إدريس ، وقبل بيعته ، ودخل المدينة ، وبنى فيها مسجدا متقنا ، وأمر بعمل منبر نصبه فيه ، وكتب عليه : " بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أمر به الامام إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب ، وذلك في صفر سنة 194 " قال ابن خلدون : " واسم إدريس مخطوط في صفحة المنبر لهذا العهد " . وبلغت أخبار إدريس هارون الرشيد ببغداد ، فخاف عاقبة ذلك ، وأيقن أنه إذا لم يتدارك أمره الآن عجز عنه في المستقبل ، وغزاه في عقر داره مع ما يعلم من فضل إدريس ، ومحبة الناس لاهل البيت عموما ( 1 ) فدس إليه رجلا يعرف باسم الشماخ ، وزوده بالمال والسم ، وأوصاه أن يتظاهر بمحبتـه للعلويين ، ويتقرب إلى إدريس بشتى الطرق ، ثم يغتاله بالسم ، ورحل الشماخ إلى إدريس مظهرا الهرب إليه فيمن هرب من جور الرشيد ، فعطف عليه إدريس ورحمه وكان الشماخ ممتلئا من الادب والظرف والبلاغة ، فانس به ادريس واطمأن إليه . وشكا إدريس ذات يوم من علة في أسنانه ، فأعطاه الشماخ دواء مسموما ، ثم اختفى ، فسقطت أسنان إدريس ، ومات سنة 177 رحمة الله عليه ، وقيل سنة 175وكان فاضلا في ذاته مالكا لشهواته ، مؤثرا العدل ، مقبلا على أعمال البر ( 2 ) .
إدريــــس الثاني :
مات إدريس ، ولم يترك ولدا إلا حملا من جارية بربرية ، اسمها كنزة ، وكان له مولى يدعى راشدا ، وكان كاسمه عاقلا أمينا ، وشجاعا كريما ، فجمع راشد رؤساء البربر ، ووجوه الناس ، وقال لهم : إن رأيتم أن تصبروا ، حتى تضع هذه الجارية حملها ، فإن كان ذكرا أحسنا تربيته ، حتى يبلغ مبلغ الرجال ، وبايعناه تمسكا بدعوة آل البيت ، وتبركا بذرية الرسول ، وإن كان انثى نظرتم لانفسكم .
فقالوا لله : ما لنا رأي إلا ما رأيت ، وأنت عندنا عوض عن إدريس ، حتى تلد الجارية حملها ، ويكون ما أشرت ، على أنها إن وضعت جارية كنت أحق الناس بهذا الامر ، لفضلك وعلملك ودينك . وولدت الجارية ذكرا ، فسماه راشد إدريس ، وقام بأمره أحسن قيام ، فأقرأه القرآن ، حتى حفظه ، وهو ابن ثماني سنوات ، ثم علمه الحديث والسنة والفقه والعربية ، ورواه الشعر وأمثال العرب ، وعرفه أيام الناس والملوك ، ودربه على ركوب الخيل والرمي بالسهام ، ولم يمض له من العمر 11 سنة إلا وقد اضطلع بما حمل ، وترشح للامر ، وبايعه البربر عن طاعة منهم وإخلاص . ولما استقام أمر المغرب لادريس الثاني وفدت عليه الوفود الوفود من سائر البلدان ، وتسامع به العرب ، فأقبلوا إلى حضرته من إفريقيا والاندلس ملتفين حوله ، حتى اجتمع لديه منهم 500 فارس من قيس والازد ومذحج وغيرهم ، فأكرم وفادتهم ، وأجزل صلتهم ، وأدنى منزلتهم ، وأسند إليهم الكثير من مناصب الدولة .
* ( هامش ) * ( 1 ) المغرب الاقصى مراكش ، والمغرب الاوسط الجزائر ، أما تونس فتعد من إفريقيا . ( * ) / صفحة 130 /
* ( هامش ) * ( 1 ) هذه الجملة وردت بالحرف في كتاب الاستقصا لاخبار دول المغرب الاقصى
( 2 ) الجزء الاول من كتاب " البيان المغرب في أخبار المغرب " لابن عذاري المراكشي ، والجزء
الاول من " الاستقصا لاخبار دول المغرب الاقصى " لابي العباس الناصري ، وكتاب " مختصر تاريخ
العرب ( 2 ) للسيد مير علي . ( * ) / صفحة 13
مدينــــة فاس
لما كثرت الوفود على إدريس الثاني من العرب وغيرهم ، وضاقت بهم مدينة" وليلة " بنى مدينة فاس ، وأنشأ فيها المدارس والجوامع والاسواق ، وأمر الناس بالبناء ، وقال : من بنى موضعا أو غرسه فهو له ، فبنى الناس كثيرا ، وغرسوا كثيرا ، ووفد عليه جماعة من الفرس ، فأكرمهم وأنزلهم بغيضة هناك بنوا فيها واستوطنوا . ولما فرغ من بناء المدينة ذهب في الجمعة الاولى إلى الجامع ، وصعد المنبر يخطب الناس ، ورفع يديه في آخر الخطبة ، وقال :
" اللهم إنك تعلم أني ما أردت ببناء هذه المدينة مباهاة ولا مفاخرة ، ولأرياء ، ولا سمعة ، ولا مكابرة ، وإنما أردت أن تعبد بها ، ويتلى بها كتابك ، وتقام بها حدودك ، وشرائع دينك ، وسنة نبيك ما بقيت الدنيا . اللهم وفق سكانها للخير ، وأعنهم عليه ، واكفهم مؤونة أعدائهم ، وأدرر عليهم الارزاق ، واغمد عنهم سيف الفتنة والشقاق . إنك على كل شئ قدير " .
فأمن الناس على دعائه ، فكثرت الخيرات بالمدينة ، وظهرت البركات ومن محاسن فاس أنها كثيرة الاشجار ، يشقها نهر نصفين ، وتتشعب منه جداول تجري في الدور والحمامات والشوارع والاسواق ، وفي أكثر بيوتها تتفجر العيون ، وتنبع الينابيع بداخلها ، واتخذت فاس عاصمة الملك ، وكان ابتداء بنائها سنة 193 .
الغـــــــــــــــزو :
لما فرغ إدريس من بناء مدينة فاس ، واتخذها دار ملكه اتجه إلى الغزو ، فذهب إلى بلاد المصامدة واستولى عليها ، وأبدى إدريس من البسالة والمهارة ما حير الالباب ، قال بعض من شهد معه الغزاوات ، حاربنا الخوارج الصفرية من البربر ، وكانوا ثلاثة أضعافنا ، فلما تقارب الجمعان نزل إدريس ، فتوضأ ، وصلى ركعتين ، ودعا الله ، ثم تقدم للقتال . فأعجبني ما رأيت من ثباته ، وقوة
جأشه ، فالتفت نحوي ، وقال : مالي أراك تديم النظر إلي ؟ قال : أعجبني ما أراه من قلبك ، وطلاقة وجهك عند اللقاء . قال إدريس : ذاك ببركة جدنا رسول الله ، ووراثة من أبينا علي بن أبي طالب ومات إدريس الثاني سنة 213 وعمره نحو 36 سنة ، وترك 12 ذكرا ، وهم :. محمد ، وعبد الله ، وعيسى ، وإدريس ، وأحمد ، وجعفر ، ويحيى ، والقاسم ، وعمر ، وعلي ، وداود ، وحمزة ( 1 ) .
:محمد بن إدريـــــس
واعتلى كرسي الخلافة بعد إدريس الثاني ابنه محمد ، وقسم بلاد المغرب بين إخوته ، حيث أسند إلى كل واحد من الكبار إمارة من إمارات البلاد ، وأبقى الصغار في كفالته ، فنجحت سياسته هذه نجاحا باهرا ، إذ ظل جميع إخوانه موالين له إلى النهاية وتوفي محمد سنة 221 بعد أن عهد بالامر لابنه علي
علــــي بن محمد :
وسار علي بسيرة أبيه وجده في العدل ، وظهرت عليه دلائل الذكاء والفضل ، وحسنت في أيامه حال الرعية ، وكانوا في أمن ودعة إلى أن توفي سنة 234 ، وعهد بالامر لاخيه يحيى بن محمد .
يحيـــى بن محمد :
وامتد سلطان يحيى بن محمد ، وعظمت دولته ، وحسنت آثاره ، واستبحر عمران فاس ، وبنيت فيها الحمامات والفنادق ، ودخل إليها الناس من الثغور القاصية وبني في عهده مسجد القرويين المعروف اليوم بجامعة القرويين ، وهي جامعة دينية إسلامية تضم المئات من الطلاب ، كجامعة النجف في العراق ، والازهر في مصر ، وجامع الزيتونة في تونس ، وتوفي يحيى بن محمد سنة 264 ، وخلفه ابنه المسمى باسمه .
وللادارسة في المغرب أعمال جليلة ، فبهم انتشر الاسلام هناك ، حتى بلغ أقاصي البلاد ، وأزدهرت العلوم والحضارة ، وتحضر أهل البوادي والجبال ، فلقد أنشأوا المدن الواسعة ، وبنوا المساجد ، وأقاموا الجامعات والكليات ، وعم في عهدهم العدل والامن والرخاء ، قال المستشرق " سيديو " في كتاب " تاريخ العرب العام " ص 278 طبعة 1948 :
" ظل الادارسة قابضين على ما ملكوه من سنة 803 إلى سنة 949 م مقيمين في البلاد التي هي مدينة لهم بجليل الاعمال ، فأسسوا مدينة فاس التي أضحى مسجدها مقدسا لدى جميع الاهالي المجاورين ، ونال شهرة عظيمة في زمن قليل ، واشتملت مدينة فاس على مدارس ومكتبات تساوقت هي والحركة العلمية التي حمل لواءها بنو العباس في المشرق ، وغدت مستودعا تجاريا واسعا بين عرب إسبانيا وعرب إفريقيا " . / صفحة 135
· ( هامش ) * ( 1 ) كتاب " الاستقصا لاخبار دول المغرب العربي "