مختصر الجمع والضم في مسألة الشرف من الأم (2 )
الكاتب: الشريف محمد الصمداني | 25/10/2007
يواصل الباحث في هذا الجزء الثاني والأخير بحث مسألة الشرف من الأم ، و كان قد تقدم نشر الجزء الأول في تاريخ سابق ..
المبحث الثالث : أصل المسألة من جهة الشرع :
إذا نظرت إلى أصل الشرع وقانون الفقه في أصل هذه المسألة ، تجد أن القاعدة عند الفقهاء : " أن المولود يتبع أحد والديه في شيء دون شيء " ، ومن صور ذلك :"
1- النسب : يتبع فيه المولود أباه .
2- الدين : يتبع المولود فيه خيرهما ديناً .
3- الحرية والرق : يتبع فيه الأم .
4- السبي : يتبع فيه سابيه في الاسلام ، إذا سبي وحده . " [55] .
وتلك القاعدة محكمة لها أدلة كثيرة في الشرع ، خاصة مسألة النسب منها ، فإنه لايعرف خلاف عند الفقهاء أن الابن يتبع أباه في النسب ، إلا في مسألَتيْ المرأة الزانية والملاعنة ، فإنَّ الولد يُنسبُ إليهما ، و على هذا جادة كتب المذاهب الفقهية المشهورة .
و أصل ذلك من الكتاب و السنة و الإجماع .
أما الكتاب فمن محكمه في أصل هذه المسألة قوله تعالى :" ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله " ( الأحزاب : آية رقم5) . و قوله تعالى :" و على المولود له رزقهن" .
و أما السنة النبوية فأدلتها كثيرة في هذا الشأن . منها حديث :" ملعون من انتسب إلى غير أبيه .. " . و حديث :" ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر بالله ، ومن ادعى قوماً ليس له فيهم نسب فليتبوأ مقعده من النار " رواه البخاري . و حديث :" من انتسب إلى غير أبيه و هو يعلمه فالجنة عليه حرام " رواه مسلم . و غير ذلك من محكم الحديث النبوي .
و أما الإجماع على تبعية الابن لأبيه في حمل النسب ، فقد حكاه غير واحد. منهم :
1 - ابن عبدالسلام المالكي [56] .
2 - و ابن مفلح الحنبلي [57] .
وقال خير الدين الرملي الحنفي :" قد استفاض النقل بأن النسب للآباء دون الأمهات بحيث يُعْجِز نقله الكتبة ، و إن أجهدوا أنفسهم ! " أهـ.
بل نقل الإمام العلامة ابن القيم اتفاق المسلمين على ذلك ، فقال : "… اتفق المسلمون على أن النسب للأب ، كما اتفقوا على أنه يتبع الأم في الحرية و الرق ، و هذا هو الذي تقتضيه حكمة الله شرعاً و قدراً ؛ فإن الأب هو المولود له، و الأم وعاء و إن تكون فيها ، و الله سبحانه جعل الولد خليفة أبيه و شجنته، و القائم مقامه ، و وضع الأنساب بين عباده ، فيقال : فلان ابن فلان ، و لا تتم مصالحهم و تعارفهم و معاملاتهم إلا بذلك ، كما قال تعالى :" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا " ، فلولا ثبوت الأنساب من قبل الآباء لما حصل التعارف ، و لفسد نظام العباد ، فإن النساء محتجبات مستورات عن العيون ، فلا يمكن في الغالب أن تعرف عين الأم ، فيشهد على نسب الولد منها ، فلو جعلت الأنساب للأمهات لضاعت و فسدت، و كان ذلك مناقضاً للحكمة و الرحمة و المصلحة ، و لهذا إنما يدعى الناس يوم القيامة بآبائهم لا بأمهاتهم . قال البخاري في صحيحه : باب يدعى الناس بآبائهم يوم القيامة ، ثم ذكر حديث :" لكل غادر لواء يوم القيامة عند إسته بقدر غدرته ، يقال : هذه غدرة فلان ابن فلان " .
فكان من تمام الحكمة أن جعل الحرية و الرق تبعاً للأم ، و النسب تبعاً للأب … " أهـ [58].
وقال ابن مفلح :" و تبعية النسب للأب ( ع ) ما لم ينتف منه ، كابن ملاعنة، فولدُ قرشي من غير قرشية : قرشيٌ ، لا عكسه . و تبعية حرية و رق لأم (ع) إلا من عذرللعيب أو غرور … ، و يتبع خيرهما ديناً . وقاله شيخنا." أهـ[59].
وقال ابن القيم رحمة الله عليه أيضاً :" … فإن النسب في الأصل للأب ، فإذا انقطع من جهته صار للأم ، كما أن الولآء في الأصل لمعتق الأب ، فإذا كان الأب رقيقاً ، كان لمعتق الأم . فلو أعتق الأب بعد هذا ، انجر الولآء من موالي الأم إليه ، ورجع إلى أصله ، وهو نظير ما إذا كذّب الملاعن نفسه ، واستلحق الولد ، رجع النسب والتعصيب من الأم وعصبتها إليه ، فهذا محض القياس وموجب الأحاديث والآثار ، وهو مذهب حبر الأمة وعالمها عبدالله بن مسعود ، ومذهب إمامي أهل الأرض في زمانهما ، أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ، وعليه يدل القران بألطف إيماء وأحسنه ، فإن الله سبحانه جعل عيسى من ذرية ابراهيم بواسطة مريم أمه، وهي من صميم ذرية ابراهيم… " أهـ [60].
ومن المسلَّم به عند الفقهاء أن النسب لا يقبل النقل ، و لهذا قالوا: " النسب لا يقبل النقل "[61]. و قال ابن بطال :" أجمع العلماء على أنه لا يجوز تحويل النسب …"[62]. و قال القرطبي - عن حديث " نهى عن بيع الولاء … " : " و وجه الدلالة : أنه أمرٌ وجودي ، لا يتأتى الانفكاك عنه كالنسب ، فكما لا تنتقل الأبوة و الجدودة ، فكذلك لا ينتقل الولاء … " [63] .
وتصوير المسألة بذلك الشكل المتقدم ، و إثبات الشرف و النسب من خلالها بإطلاق ، يعارض هذه المسلمة المقررة في كلام الفقهاء .
وإذا كان الأمر كذلك عند الفقهاء ، فما هي حجة من قال باستثناء ولد الشريفة ، وهل عنده ما يقاوم تلك الأدلة المحكمة والقواعد المستقرة في الشرع أم لا؟
قبل الإجابة عن ذلك ، ينبغي التفريق بين مسألتين قد تختلط على البعض وهي: مسألة حمل عمود النسب ، ومسألة الدخول في الذرية والنسل والعقب ، فإن بينهما عموما وخصوصا وجهي ، ومن لم يفرق بينهما لايطرد له قول . ولهذا يتجاذب أصل هذه المسألة عدة أبواب وفروع فقهية ، مثل مسآئل : الوقف والوصية للأولاد ، وأولاد الأولاد : هل يدخل فيهم أولاد البنات أم لا ؟ وهي مسألة مشهورة عند الفقهاء ، وأرباب الفتوى ، لايكاد أن يخلو كتاب فقه من الاشارة إليها .
وكثير من الأدلة التي قد يسوقها بعضهم للانتصار للشرف من الأم وثبوته ، لايوجد كبير فآئدة من مناقشتها وتتبعها ، لأنها ليست من صُلَبِ الأدلة ، وهي غير صريحة في المسألة ، فهي أدلة تثبت شيئاً من الشرف و المتات ، والصلة والرحم ؛ والنسبُ شيءٌ ورآء ذلك .
وفي حقيقة الأمر ، فإنَّ الشرف المتنازع في إثباته بين الفقهاء الخائضين في المسألة لم يحرر المراد به . و لهذا قال الشيخ أبو عبدالله الشريف المالكي في هذه المسألة لما سئل عنها: " لا أعلم في المسألة نصاً للمتقدمين من أصحابنا المالكية ، و لا للمتأخرين ، إلا ما وقفت عليه للتونسيين ، القاضي أبي إسحاق ابن عبدالرفيع ، و هو يذهب إلى أن الشرف لا يثبت من جهة الأم ، و رئيس البجائيين الشيخ أبو علي ناصر الدين ، و هو يذهب إلى أن الشرف يثبت من جهة الأم .
وكلام الفريقين لم يتحقق فيه معنى الشرف المتنازع فيه نفياً و إثباتاً ، لكن المفهوم من كلام أبي إسحاق أن الشرف هو النسب ، و المفهوم من كلام الشيخ أبي علي أن الشرف هو الفضيلة على الغير ، و كأن الشيخ أبا علي راعى في ذلك الوضع اللغوي ، … " [64].
أقول : و لكن أبا علي ومن نحى منحاه يقول بإثبات النسب أيضاً !
ومن جملة أدلتهم : استدلالهم بآية الأنعام و ما فيها من ذكر أن عيسى عليه السلام من ذرية ابراهيم عليه الصلاة والسلام ، وستأتي مناقشة ابن القيم لها عند عرض كلامه في المسألة .
واستدل بعضهم بحديث :" ابن أخت القوم منهم " [65] . وهذا الحديث - كما يقول الحافظ ابن حجر - :" ليس على عمومه ، إذ لو كان على عمومه ، لجاز أن ينسب إلى خاله مثلاً ، وكان معارضاً لحديث :" من ادعى إلى غير أبيه … " المصرح بالوعيد الشديد لمن فعل ذلك ، فعرف أنه خاص ، والمراد به : أنه منهم في الشفقة والبر والمعاونة ، ونحو ذلك " أهـ[66] .
ومما يبين أن هذا الحديث ليس المراد به أمر النسب : استدلال من استدل به في مسألة ذوي الأرحام هل يرثون كما يرث العصبات أم لا ؟! والذي يبين ذلك: " أنه لو صح الاستدلال بقوله :" ابن أخت القوم منهم " على إرادة الميراث لصحَّ الاستدلال به على أن العتيق يرث ممن أعتقه لورود مثله في حقه ، فدلَّ على أن المراد بقوله :" من أنفسهم " وكذا :" منهم " في المعاونة والانتصار والبر والشفقة ، ونحو ذلك لا في الميراث". أهـ[67].
وتكون الحكمة - والله أعلم - في إيراد هذا الحديث :" إبطال ما كانوا عليه في الجاهلية من عدم الالتفات إلى أولاد البنات فضلاً عن أولاد الأخوات حتى قال قائلهم :
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن بنو الرجال الأباعد
فأراد بهذا الكلام التحريض على الألفة بين الأقارب " أهـ[68] .
الكاتب: الشريف محمد الصمداني | 25/10/2007
يواصل الباحث في هذا الجزء الثاني والأخير بحث مسألة الشرف من الأم ، و كان قد تقدم نشر الجزء الأول في تاريخ سابق ..
المبحث الثالث : أصل المسألة من جهة الشرع :
إذا نظرت إلى أصل الشرع وقانون الفقه في أصل هذه المسألة ، تجد أن القاعدة عند الفقهاء : " أن المولود يتبع أحد والديه في شيء دون شيء " ، ومن صور ذلك :"
1- النسب : يتبع فيه المولود أباه .
2- الدين : يتبع المولود فيه خيرهما ديناً .
3- الحرية والرق : يتبع فيه الأم .
4- السبي : يتبع فيه سابيه في الاسلام ، إذا سبي وحده . " [55] .
وتلك القاعدة محكمة لها أدلة كثيرة في الشرع ، خاصة مسألة النسب منها ، فإنه لايعرف خلاف عند الفقهاء أن الابن يتبع أباه في النسب ، إلا في مسألَتيْ المرأة الزانية والملاعنة ، فإنَّ الولد يُنسبُ إليهما ، و على هذا جادة كتب المذاهب الفقهية المشهورة .
و أصل ذلك من الكتاب و السنة و الإجماع .
أما الكتاب فمن محكمه في أصل هذه المسألة قوله تعالى :" ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله " ( الأحزاب : آية رقم5) . و قوله تعالى :" و على المولود له رزقهن" .
و أما السنة النبوية فأدلتها كثيرة في هذا الشأن . منها حديث :" ملعون من انتسب إلى غير أبيه .. " . و حديث :" ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر بالله ، ومن ادعى قوماً ليس له فيهم نسب فليتبوأ مقعده من النار " رواه البخاري . و حديث :" من انتسب إلى غير أبيه و هو يعلمه فالجنة عليه حرام " رواه مسلم . و غير ذلك من محكم الحديث النبوي .
و أما الإجماع على تبعية الابن لأبيه في حمل النسب ، فقد حكاه غير واحد. منهم :
1 - ابن عبدالسلام المالكي [56] .
2 - و ابن مفلح الحنبلي [57] .
وقال خير الدين الرملي الحنفي :" قد استفاض النقل بأن النسب للآباء دون الأمهات بحيث يُعْجِز نقله الكتبة ، و إن أجهدوا أنفسهم ! " أهـ.
بل نقل الإمام العلامة ابن القيم اتفاق المسلمين على ذلك ، فقال : "… اتفق المسلمون على أن النسب للأب ، كما اتفقوا على أنه يتبع الأم في الحرية و الرق ، و هذا هو الذي تقتضيه حكمة الله شرعاً و قدراً ؛ فإن الأب هو المولود له، و الأم وعاء و إن تكون فيها ، و الله سبحانه جعل الولد خليفة أبيه و شجنته، و القائم مقامه ، و وضع الأنساب بين عباده ، فيقال : فلان ابن فلان ، و لا تتم مصالحهم و تعارفهم و معاملاتهم إلا بذلك ، كما قال تعالى :" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا " ، فلولا ثبوت الأنساب من قبل الآباء لما حصل التعارف ، و لفسد نظام العباد ، فإن النساء محتجبات مستورات عن العيون ، فلا يمكن في الغالب أن تعرف عين الأم ، فيشهد على نسب الولد منها ، فلو جعلت الأنساب للأمهات لضاعت و فسدت، و كان ذلك مناقضاً للحكمة و الرحمة و المصلحة ، و لهذا إنما يدعى الناس يوم القيامة بآبائهم لا بأمهاتهم . قال البخاري في صحيحه : باب يدعى الناس بآبائهم يوم القيامة ، ثم ذكر حديث :" لكل غادر لواء يوم القيامة عند إسته بقدر غدرته ، يقال : هذه غدرة فلان ابن فلان " .
فكان من تمام الحكمة أن جعل الحرية و الرق تبعاً للأم ، و النسب تبعاً للأب … " أهـ [58].
وقال ابن مفلح :" و تبعية النسب للأب ( ع ) ما لم ينتف منه ، كابن ملاعنة، فولدُ قرشي من غير قرشية : قرشيٌ ، لا عكسه . و تبعية حرية و رق لأم (ع) إلا من عذرللعيب أو غرور … ، و يتبع خيرهما ديناً . وقاله شيخنا." أهـ[59].
وقال ابن القيم رحمة الله عليه أيضاً :" … فإن النسب في الأصل للأب ، فإذا انقطع من جهته صار للأم ، كما أن الولآء في الأصل لمعتق الأب ، فإذا كان الأب رقيقاً ، كان لمعتق الأم . فلو أعتق الأب بعد هذا ، انجر الولآء من موالي الأم إليه ، ورجع إلى أصله ، وهو نظير ما إذا كذّب الملاعن نفسه ، واستلحق الولد ، رجع النسب والتعصيب من الأم وعصبتها إليه ، فهذا محض القياس وموجب الأحاديث والآثار ، وهو مذهب حبر الأمة وعالمها عبدالله بن مسعود ، ومذهب إمامي أهل الأرض في زمانهما ، أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ، وعليه يدل القران بألطف إيماء وأحسنه ، فإن الله سبحانه جعل عيسى من ذرية ابراهيم بواسطة مريم أمه، وهي من صميم ذرية ابراهيم… " أهـ [60].
ومن المسلَّم به عند الفقهاء أن النسب لا يقبل النقل ، و لهذا قالوا: " النسب لا يقبل النقل "[61]. و قال ابن بطال :" أجمع العلماء على أنه لا يجوز تحويل النسب …"[62]. و قال القرطبي - عن حديث " نهى عن بيع الولاء … " : " و وجه الدلالة : أنه أمرٌ وجودي ، لا يتأتى الانفكاك عنه كالنسب ، فكما لا تنتقل الأبوة و الجدودة ، فكذلك لا ينتقل الولاء … " [63] .
وتصوير المسألة بذلك الشكل المتقدم ، و إثبات الشرف و النسب من خلالها بإطلاق ، يعارض هذه المسلمة المقررة في كلام الفقهاء .
وإذا كان الأمر كذلك عند الفقهاء ، فما هي حجة من قال باستثناء ولد الشريفة ، وهل عنده ما يقاوم تلك الأدلة المحكمة والقواعد المستقرة في الشرع أم لا؟
قبل الإجابة عن ذلك ، ينبغي التفريق بين مسألتين قد تختلط على البعض وهي: مسألة حمل عمود النسب ، ومسألة الدخول في الذرية والنسل والعقب ، فإن بينهما عموما وخصوصا وجهي ، ومن لم يفرق بينهما لايطرد له قول . ولهذا يتجاذب أصل هذه المسألة عدة أبواب وفروع فقهية ، مثل مسآئل : الوقف والوصية للأولاد ، وأولاد الأولاد : هل يدخل فيهم أولاد البنات أم لا ؟ وهي مسألة مشهورة عند الفقهاء ، وأرباب الفتوى ، لايكاد أن يخلو كتاب فقه من الاشارة إليها .
وكثير من الأدلة التي قد يسوقها بعضهم للانتصار للشرف من الأم وثبوته ، لايوجد كبير فآئدة من مناقشتها وتتبعها ، لأنها ليست من صُلَبِ الأدلة ، وهي غير صريحة في المسألة ، فهي أدلة تثبت شيئاً من الشرف و المتات ، والصلة والرحم ؛ والنسبُ شيءٌ ورآء ذلك .
وفي حقيقة الأمر ، فإنَّ الشرف المتنازع في إثباته بين الفقهاء الخائضين في المسألة لم يحرر المراد به . و لهذا قال الشيخ أبو عبدالله الشريف المالكي في هذه المسألة لما سئل عنها: " لا أعلم في المسألة نصاً للمتقدمين من أصحابنا المالكية ، و لا للمتأخرين ، إلا ما وقفت عليه للتونسيين ، القاضي أبي إسحاق ابن عبدالرفيع ، و هو يذهب إلى أن الشرف لا يثبت من جهة الأم ، و رئيس البجائيين الشيخ أبو علي ناصر الدين ، و هو يذهب إلى أن الشرف يثبت من جهة الأم .
وكلام الفريقين لم يتحقق فيه معنى الشرف المتنازع فيه نفياً و إثباتاً ، لكن المفهوم من كلام أبي إسحاق أن الشرف هو النسب ، و المفهوم من كلام الشيخ أبي علي أن الشرف هو الفضيلة على الغير ، و كأن الشيخ أبا علي راعى في ذلك الوضع اللغوي ، … " [64].
أقول : و لكن أبا علي ومن نحى منحاه يقول بإثبات النسب أيضاً !
ومن جملة أدلتهم : استدلالهم بآية الأنعام و ما فيها من ذكر أن عيسى عليه السلام من ذرية ابراهيم عليه الصلاة والسلام ، وستأتي مناقشة ابن القيم لها عند عرض كلامه في المسألة .
واستدل بعضهم بحديث :" ابن أخت القوم منهم " [65] . وهذا الحديث - كما يقول الحافظ ابن حجر - :" ليس على عمومه ، إذ لو كان على عمومه ، لجاز أن ينسب إلى خاله مثلاً ، وكان معارضاً لحديث :" من ادعى إلى غير أبيه … " المصرح بالوعيد الشديد لمن فعل ذلك ، فعرف أنه خاص ، والمراد به : أنه منهم في الشفقة والبر والمعاونة ، ونحو ذلك " أهـ[66] .
ومما يبين أن هذا الحديث ليس المراد به أمر النسب : استدلال من استدل به في مسألة ذوي الأرحام هل يرثون كما يرث العصبات أم لا ؟! والذي يبين ذلك: " أنه لو صح الاستدلال بقوله :" ابن أخت القوم منهم " على إرادة الميراث لصحَّ الاستدلال به على أن العتيق يرث ممن أعتقه لورود مثله في حقه ، فدلَّ على أن المراد بقوله :" من أنفسهم " وكذا :" منهم " في المعاونة والانتصار والبر والشفقة ، ونحو ذلك لا في الميراث". أهـ[67].
وتكون الحكمة - والله أعلم - في إيراد هذا الحديث :" إبطال ما كانوا عليه في الجاهلية من عدم الالتفات إلى أولاد البنات فضلاً عن أولاد الأخوات حتى قال قائلهم :
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن بنو الرجال الأباعد
فأراد بهذا الكلام التحريض على الألفة بين الأقارب " أهـ[68] .