الامام ابي عبد الله محمد بن الصديق الغماري
--------------------------------------------------------------------------------
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وءاله وأصحابه أجمعين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وبعد
فهذه ترجمة لسيدي الإمام العارف بالله الشيخ أبي عبد الله محمد بن الصديق الغماري منشئ الطريقة الصديقية الشاذلية رحمه الله كما ترجم له ولده الشيخ المحدث أبو الفضل عبد الله الغماري محدث الديار المغربية .
هو أبو عبد الله محمد بن الصديق الغماري الحسني ، ينتهي نسبه إلى ادريس الأكبر ابن عبد الله الكامل ابن الحسن المثنى ابن الحسن المجتبى ابن الإمام علي عليه السلام .
ولد في غمارة سنة 1295 للهجرة وسماه والده محمداً المنصور فكان لهذه التسمية أثر في حياته ، فقد عاش طول حياته منصوراً على أعدائه ومناوئيه .
وحفظ القرءان الكريم بروايتي ورش وحفص ، وكان والده العارف بالله سيدي الحاج الصديق يريد أن يعلمه القراءات ، فأشار عليه أحد العلماء الصالحين أن يبعثه إلى فاس لحضور العلم بجامعة القرويين ، فحضر هناك على جماعة من كبار العلماء الصالحين . منهم السيد مجمد جعفر الكتاني ، وأخذ الطريقة الشاذلية الدرقاوية عن شيخه العارف الكبير السيد محمد بن إبراهيم الفاسي المدفون بزاويته بفاس ، وكان مدة حضوره العلم وسلوكه الطريق ثلاث سنوات .
ثم رجع إلى بلده وذهب إلى طنجة ليخطب بنت خاله العارف الكبير سيدي عبد الحفيظ بن أحمد بن أحمد بن عجيبة فوافق على زواجه بشرط أن يمكث بطنجة . فمكث فيها ونشر الطريق وأحيى سوق العلم بعد اندراسها بذلك البلد . فدرّس في الجامع الأعظم صحيح البخاري بطريقة لم يسبق لها مثيل ، ومختصر خليل في الفقه المالكي ، وألفية ابن مالك في علوم العربية والصرف ، ودرّس بمساجد أخرى السيرة النبوية وغيرها ، ودرّس بزاويته التي أنشأها بطنجة تفسير القرءان الكريم .
وكان حافظاً قوي الذاكرة ، تخرّج على يديه جماعة من العلماء ، وكانت دروسه روضة من العلم ، وكان في دروسه في صحيح البخاري يهاجم الاستعمار ويحض على جهاد الكفار وكان شجاعاً لا يخشى في الله لومة لائم ، وطالما أشاع الفرنسيون أنهم سيلقون القبض عليه ليرهبوه . ومع ذلك ما تأخر عن دروسه التي يهاجمهم فيها ، ولا خاف منهم بل زاد في مهاجمته لهم ولم يستطيعوا أن يمسوه بسوء .
ومما يدل على شجاعته أنه دُعيَ إلى مؤتمر الخلافة الذي عُقد في الأزهر برئاسة أبي الفضل الجيزاوي شيخ الأزهر ودُعي معه عالمان من المغرب منعهما الفرنسيون من حضور المؤتمر . أما السيد صاحب الترجمة فقد بعث إلى مندوب الملك بطنجة وهو مغربي ، يطلب منه جواز سفر إلى مصر بدون صورة ، فقال المندوب هذا لا يمكن ، فقال السيد سأسافر ولو بدون جواز سفر ، فرد عليه المراقب الفرنسي بطنجة : إذا ذهبت بدون جواز فسيردك الإنجليز من مصر فرد عليه السيد : لا علاقة لكم بذلك . فرفع مندوب الملك الأمر إلى الإقامة العامة بالرباط ليقرروا ما يرونه في ذلك ، وبعد مراجعة بينهما لمدة شهرين أعطوه الجواز بدون صورة كما طلب . وكان من أعلم أهل وقته ، ليس في المغرب من يعارضه أو يرد له فتوى ، وكانت الأسئلة تأتيه من سائر أنحاء المغرب حتى من الجزائر ، وكان يفتي على المذاهب الأربعة ، مع أنه بلغ درجة الإجتهاد ، يسير مع الدليل حيث سار . ولذلك أحيا في المغرب سنناً أميتت لمدة طويلة منها في الصلاة : وضع اليدين إحداهما على الأخرى والتعوذ والبسملة ، ورفع اليدين عند الركوع والقيام منه ، وغير ذلك .
ولما حضر المؤتمر بمصر اجتمع بكبار العلماء هناك مثل الشيخ بخيت مفتي الديار ، والشيخ محمد السمالوطي ، والشيخ يوسف الشبرابخومي ، والشيخ عبد المجيد الشرنوبي ، والسيد أحمد رافع الطهطاوي ، وغيرهم من كبار العلماء ، واعترفوا بفضله وعلمه ، ودعوه إلى بيوتهم ، ومنهم من طلب منه أن يأخذ منه القبضة في الطريق ( أي يأخذ منه الطريقة ) فامتنع تواضعاً . وترك ذكرى طيبة بين علماء مصر على اختلاف مذاهبهم .
ولو كان يرحل إلى البلاد لنشر الطريق كما يفعل غيره لخلَّف مريدين كثيرين ، ولكنه لم يرحل ، وإنما كان يعطي الطريق لمن يزوره في بيته ويطلب منه الطريق برغبته ، ورغم ذلك فله مريدون كثيرون بفاس ، وسلا ، والرباط ، والدار البيضاء ، وزعير والقصر الكبير والعرائش وأصيلا وتطوان وأنجرة وبني سعيد وغمارة . أما طنجة فكان أكثر من نصف أهلها من مريديه . وهو من أواخر الشيوخ المربين ، كان يدخل المريد للخلوة حتى يصل إلى الفتوح في مدة وجيزة .
قال العلامة الشيخ عبد الله الغماري:
وتلاميذه من العلماء كثيرون ، منهم :
العلامة الفقيه العربي أبو عياد خطيب الزاوية الصديقية سابقاً
والعلامة الفقيه العربي بن المبارك العبادي
والفقيه العربي التلمساني قاضي طنجة سابقاً
والفقيه العلامة القاضي أحمد بو زيد
والفقيه الهاشمي الخلوي
والفقيه الأديب العياشي سكيرج
والفقيه محمد الحاج الصادق
والفقيه الحاج محمد الغماري
وغيرهم كثير رحمهم الله . وكان الذي يحضر دروسه لا يقنع بعالم غيره . حضر عليه بطنجة الفقيه أحمد بو حساين العلوم الإسلامية ثم ودع الشيخ ليذهب إلى فاس ليكمل دروسه هناك . وبعد أربعة أشهر رجع إلى طنجة ، فسأله الشيخ لم رجعت ؟ فقال له : يا سيدي من حضر عليك لا يقنعه غيرك . مع أنه وجد بفاس شيوخ السيد المترجَم له .
ما تولى وظيفة حكومية قط ، بل كان ينهى عن توليها ، لأن فيها مساعدة للمستعمرين . وكان يشدد النكير على من يتولى وظيفة القضاء من تلامذته لانتشار الفساد في طبقة القضاء .
أنشأ زاويته الصديقية على أرض وهبها له السلطان عبد العزيز ملك المغرب ، وكان بناؤها عام 1319 للهجرة ، وبنى في عهده زاوية بأصيلا والعرائش .
وزاوية فاس أنشأها العارف الكبير سيدي محمد أيوب تلميذ جده سيدي أحمد وجعلها لشيخه وتلا مذته بعده ، وزاوية تطوان أنشأها مريدو والده سيدي الحاج الصديق ثم آلت إليه بعده . وزاوية سلا اشتُريت أرضها في عهده وبنيت بعد وفاته . وزاوية زعير بنيت في عهد ولده سيدي أحمد بن الصديق .
وأنجب أولاداً علماء هم :
السيد أحمد
السيد عبد الله
السيد محمد الزمزمي
السيد عبد الحي
السيد عبد العزيز
السيد حسن
والسيد إبراهيم
كان رحمه الله صاحب كرامات كثيرة وشجاعة عالية متمسكاً بالحق . فمن ذلك :
أنه حارب الإستعمار في وقت كان الفرنسيون يقبضون على المغرب بيد من حديد ، وكان المغاربة إذا أراد أحدهم أن يسافر إلى مصر يذهب إلى فرنسا ليحصل على إذن الخروج إلى مصر أو غيرها من البلاد العربية . أما من المغرب فتمنع فرنسا أي مغربي من الخروج إلى البلاد العربية ، ففي هذا الحال الشديد سافر السيد المترجَم له إلى المؤتمر الإسلامي بمصر من طنجة كما سبق ، وفي هذه الحالة الشديدة بعث ابنه السيد أحمد إلى مصر ليتعلم فيها من طنجة ، وبعث بعد ذلك أولاده الثلاثة إلى مصر : السيد عبد الله والسيد عبد العزيز والسيد محمد الزمزمي .
ولما قام عبد الكريم الريفي بثورته ضد الفرنسيين والإسبان ، كان السيد المترجَمُ له يساعده ، وأمر مريديه بقبيلة انجرة أن يحاربوا معه ، وكانوا خمسة آلاف أو أكثر ، وأنزلوا بالإسبان هناك هزيمة فاجعة . وكان له طبيب صديق اسمه محبوب ، حرَّضه على الذهاب إلى الريف لمعالجة جرحى المجاهدين ، وكان الطريق مخوفاً ، لأنها تمر بالجيش الإسباني فسهل له الطريق مع بعض مريديه ، حتى وصل إلى الريف سالماً وأدى مهمته هناك .
وكان الأمير عبد الكريم الخطابي يبعث إليه الرسائل يستفتيه في أسرى الإسبان والفرنسيين الذين وقعوا تحت يده ، ماذا يصنع بهم ، فكان يجيبه بالحكم الشرعي المقرر في ذلك ، وتكررت بينهما المراسلات في هذا الشأن وغيره مما يتعلق بقبيلة غمارة وغيرها .
وتكونت بمصر جمعية لمساعدة الأمير عبد الكريم الخطابي مادياً ، واتصلوا بالمغاربة الذين بمصر يطلبون منهم أن يرسلوا مبلغ سبعة آلاف من الجنيهات جمعها الأمير عمر طوسون إلى الأمير عبد الكريم ، فاتصلوا بعائلة الحلو والتازي وبناني وبن شقرون وغيرهم ، فاعتذروا عن القيام بهذه المهمة خوفاً على عائلاتهم بالمغرب أن يلحقهم ضرر من الفرنسيين . فاتصل الأمير عمر طوسون بالسيد أحمد نجل السيد المترجَمِ له وطلب منه أن يتصل بوالده الذي رحب بالموضوع وقال أنه مستعد أن يسلم المبلغ للأمير عبد الكريم ويبعث لهم إمضاءه بخطه أنه استلمه .
ومن كراماته أنه امتنع عن أداء ضريبة البيت الذي يسكنه لأن الفرنسيين يتولون أخذها وبعثت إليه إدارة الضرائب الفرنسية تطالبه بأداء الضريبة فلم يجبها ، وكتب إلى السلطان مولاي يوسف باعتباره رئيس البلاد خطاباً ذكر فيه أنه يساعد الحكومة في حفظ الأمن لأنه يعلم الناس دينهم ، ويحضهم على الإستقامة والتزام السلوك القويم ، وما طالب الحكومة قط أن تعطيه أجراً على ذلك ولا يريد أن يطلبه ، فلماذا يطلب منه أن يدفع ضريبة عن بيت يسكنه ؟ فلم يطالبوه بعد بالضريبة .
ومن كراماته أنه أخبر عن زوجته أنها نالت الولاية قبيل وفاتها بلحظات وقد توفيت ليلة سبع وعشرين من رمضان سنة 1341 للهجرة . وفي شهر شوال سنة 1354 للهجرة توفي السيد المترجَم له ، وأراد أولاده أن يدفنوه بجانبها بالزاوبة ، فلما حفروا عنها وجدوها كأنها دفنت في تلك الساعة لم يتغير منها شيء ، حتى الكفن لا يزال كأنه جديد .
وقد حرر رضي الله عنه رقاباً كثيرة استرقها سارقوها اللصوص من أهاليهم حيث كانوا يذهبون إلى مراكش أو غيرها ويسرقون الصغار ثم يبيعونهم في طنجة أو غيرها من البلاد .
وكانت بعض هذه الخادمات تأتي إلى السيد المترجَم له هاربة من عسف أسيادها وظلمهم ، فيشتريها منهم ويعتقها .
وقد شهد له علماء عصره بالتقدم في العلم والمعرفة وبقوة الحافظة . من ذلك أن العلامة الشيخ عباي بناني من أكابر علماء القرويين طلب منه بعض مريدي السيد بفاس أن يصدر فتوى تتعلق بنزاع في الزاوية فسألهم هل يراها السيد ؟ قالوا : نعم . قال : إذن أحتاط فيها لأن السيد في العلم مخيف .
وحضر إلى طنجة شيخ الجماعة بفاس مولاي عبد الله الفضيل وزار السيد في بيته ، وكان مشهوراً بعلم الأصول فأراد السيد أن يناقشه في هذا العلم على سبيل المؤانسة والمكارمة ، فقال له يا سيدي أنا عالم في الدرس وبالملزمة فإن خرجت عن ذلك فلا أستحضر شيئاً .
وكان الشيخ عبد الكريم الرافعي الجديدي من المحققين في علم الأصول ، وكان يقول : ليس في المغرب من يعرف علم الأصول ، مع أنه قد زار فاس وعرف علماءها ، والرباط وغيرها من بلاد المغرب ، حتى جاء إلى طنجة وزار السيد في بيته وتذاكرا في مسألة المناسب وتقسيمه إلى ضروري وحاجي وتحسيني ، فسمع من السيد ما بهره فلما خرج من عنده قال : هذا يعرف علم الأصول واعترف له .
ولما توفي السيد المترجَم له قال الشيخ أبو شهيب الدكالي في درسه بالرباط وهو من أكابر علماء المغرب : ( مات اليوم العالم الوحيد )
وكان ينوب أحياناً عن قاضي طنجة في خطبة الجمعة بالجامع الأعظم . وفي بعض الجمع التي ناب فيها عن القاضي ، بينما هو يريد أن يرقى المنبر ، جذبه من خلفه بعض الناس وقال له : ( اعرف من أنت ) ، وكان في المصلين عالمان كبيران لهما قدرهما ووزنهما في المغرب ، فارتجل خطبة واستمر يلقيها في فصاحة وطلاقة ، وطال الوقت بحيث لما سلم من صلاة الجمعة أذن المؤذن لصلاة العصر فاندهش الناس لقوة حافظته وسرعة بديهته .
ولما توفي انقلب المغرب رأساً على عقب وأباحت فرنسا الدخول لطنجة بدون جواز لحضور جنازته ، فجاء الناس من كل جانب ، وكانت جنازته عظيمة ما رؤي مثلها ، كان المشيعون من الكثرة بحيث وصل جثمانه إلى الجامع الأعظم وآخر المشيعين قرب بيته وبينهما مسافة شاسعة .
وكان لهيبة الجنازة وروعتها أن النصارى واليهود الذين رأوها بكوا بكاء شديداً ، حزناً على السيد صاحب الترجمة لأنه كان مشهوراً بخلقه الحسن ، وحلمه العظيم ، وكرمه الفائق .
حضر إليه مرة في بيته يهودي يشكو من أحد مريديه فاستقبله استقبالاً حسناً ، وطيب خاطره ، ووعده بإنهاء مهمته على ما يرام ، فلما خرج اليهودي من عنده قال : لولا أخاف من غضب الحاخام لقلت هذا السيد هو موسى عليه السلام . وذلك لما رأى عليه من الجلالة والمهابة والخلق الكريم ، نفعنا الله ببركته .
هذا آخر ما يسر الله نقله من ترجمة السيد الإمام محمد بن الصديق الإدريسي الشاذلي رضي الله عنه . والحمد لله رب العالمين
منقول من كتاب الدرر النقية في أذكار وآداب الطريقة الصديقية ، نقلاً عن الكتب المؤلفة في مناقبه من قبل بعض مريديه :
العلامة الفقيه الشيخ العربي بو عياد
العلامة الفقيه العربي بن المبارك العبادي
الفقيه الشيخ العياشي سكيرج
الفقيه الشيخ محمد بن الأزرق
وجمع هذه الكتب كلها مع زيادة عليها ولده السيد أحمد في كتابين ، صغير اسمه ( التصور والتصديق ) وهو مطبوع ، وكبير اسمه ( سبحة العقيق ) وهو مخطوط .
--------------------------------------------------------------------------------
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وءاله وأصحابه أجمعين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وبعد
فهذه ترجمة لسيدي الإمام العارف بالله الشيخ أبي عبد الله محمد بن الصديق الغماري منشئ الطريقة الصديقية الشاذلية رحمه الله كما ترجم له ولده الشيخ المحدث أبو الفضل عبد الله الغماري محدث الديار المغربية .
هو أبو عبد الله محمد بن الصديق الغماري الحسني ، ينتهي نسبه إلى ادريس الأكبر ابن عبد الله الكامل ابن الحسن المثنى ابن الحسن المجتبى ابن الإمام علي عليه السلام .
ولد في غمارة سنة 1295 للهجرة وسماه والده محمداً المنصور فكان لهذه التسمية أثر في حياته ، فقد عاش طول حياته منصوراً على أعدائه ومناوئيه .
وحفظ القرءان الكريم بروايتي ورش وحفص ، وكان والده العارف بالله سيدي الحاج الصديق يريد أن يعلمه القراءات ، فأشار عليه أحد العلماء الصالحين أن يبعثه إلى فاس لحضور العلم بجامعة القرويين ، فحضر هناك على جماعة من كبار العلماء الصالحين . منهم السيد مجمد جعفر الكتاني ، وأخذ الطريقة الشاذلية الدرقاوية عن شيخه العارف الكبير السيد محمد بن إبراهيم الفاسي المدفون بزاويته بفاس ، وكان مدة حضوره العلم وسلوكه الطريق ثلاث سنوات .
ثم رجع إلى بلده وذهب إلى طنجة ليخطب بنت خاله العارف الكبير سيدي عبد الحفيظ بن أحمد بن أحمد بن عجيبة فوافق على زواجه بشرط أن يمكث بطنجة . فمكث فيها ونشر الطريق وأحيى سوق العلم بعد اندراسها بذلك البلد . فدرّس في الجامع الأعظم صحيح البخاري بطريقة لم يسبق لها مثيل ، ومختصر خليل في الفقه المالكي ، وألفية ابن مالك في علوم العربية والصرف ، ودرّس بمساجد أخرى السيرة النبوية وغيرها ، ودرّس بزاويته التي أنشأها بطنجة تفسير القرءان الكريم .
وكان حافظاً قوي الذاكرة ، تخرّج على يديه جماعة من العلماء ، وكانت دروسه روضة من العلم ، وكان في دروسه في صحيح البخاري يهاجم الاستعمار ويحض على جهاد الكفار وكان شجاعاً لا يخشى في الله لومة لائم ، وطالما أشاع الفرنسيون أنهم سيلقون القبض عليه ليرهبوه . ومع ذلك ما تأخر عن دروسه التي يهاجمهم فيها ، ولا خاف منهم بل زاد في مهاجمته لهم ولم يستطيعوا أن يمسوه بسوء .
ومما يدل على شجاعته أنه دُعيَ إلى مؤتمر الخلافة الذي عُقد في الأزهر برئاسة أبي الفضل الجيزاوي شيخ الأزهر ودُعي معه عالمان من المغرب منعهما الفرنسيون من حضور المؤتمر . أما السيد صاحب الترجمة فقد بعث إلى مندوب الملك بطنجة وهو مغربي ، يطلب منه جواز سفر إلى مصر بدون صورة ، فقال المندوب هذا لا يمكن ، فقال السيد سأسافر ولو بدون جواز سفر ، فرد عليه المراقب الفرنسي بطنجة : إذا ذهبت بدون جواز فسيردك الإنجليز من مصر فرد عليه السيد : لا علاقة لكم بذلك . فرفع مندوب الملك الأمر إلى الإقامة العامة بالرباط ليقرروا ما يرونه في ذلك ، وبعد مراجعة بينهما لمدة شهرين أعطوه الجواز بدون صورة كما طلب . وكان من أعلم أهل وقته ، ليس في المغرب من يعارضه أو يرد له فتوى ، وكانت الأسئلة تأتيه من سائر أنحاء المغرب حتى من الجزائر ، وكان يفتي على المذاهب الأربعة ، مع أنه بلغ درجة الإجتهاد ، يسير مع الدليل حيث سار . ولذلك أحيا في المغرب سنناً أميتت لمدة طويلة منها في الصلاة : وضع اليدين إحداهما على الأخرى والتعوذ والبسملة ، ورفع اليدين عند الركوع والقيام منه ، وغير ذلك .
ولما حضر المؤتمر بمصر اجتمع بكبار العلماء هناك مثل الشيخ بخيت مفتي الديار ، والشيخ محمد السمالوطي ، والشيخ يوسف الشبرابخومي ، والشيخ عبد المجيد الشرنوبي ، والسيد أحمد رافع الطهطاوي ، وغيرهم من كبار العلماء ، واعترفوا بفضله وعلمه ، ودعوه إلى بيوتهم ، ومنهم من طلب منه أن يأخذ منه القبضة في الطريق ( أي يأخذ منه الطريقة ) فامتنع تواضعاً . وترك ذكرى طيبة بين علماء مصر على اختلاف مذاهبهم .
ولو كان يرحل إلى البلاد لنشر الطريق كما يفعل غيره لخلَّف مريدين كثيرين ، ولكنه لم يرحل ، وإنما كان يعطي الطريق لمن يزوره في بيته ويطلب منه الطريق برغبته ، ورغم ذلك فله مريدون كثيرون بفاس ، وسلا ، والرباط ، والدار البيضاء ، وزعير والقصر الكبير والعرائش وأصيلا وتطوان وأنجرة وبني سعيد وغمارة . أما طنجة فكان أكثر من نصف أهلها من مريديه . وهو من أواخر الشيوخ المربين ، كان يدخل المريد للخلوة حتى يصل إلى الفتوح في مدة وجيزة .
قال العلامة الشيخ عبد الله الغماري:
وتلاميذه من العلماء كثيرون ، منهم :
العلامة الفقيه العربي أبو عياد خطيب الزاوية الصديقية سابقاً
والعلامة الفقيه العربي بن المبارك العبادي
والفقيه العربي التلمساني قاضي طنجة سابقاً
والفقيه العلامة القاضي أحمد بو زيد
والفقيه الهاشمي الخلوي
والفقيه الأديب العياشي سكيرج
والفقيه محمد الحاج الصادق
والفقيه الحاج محمد الغماري
وغيرهم كثير رحمهم الله . وكان الذي يحضر دروسه لا يقنع بعالم غيره . حضر عليه بطنجة الفقيه أحمد بو حساين العلوم الإسلامية ثم ودع الشيخ ليذهب إلى فاس ليكمل دروسه هناك . وبعد أربعة أشهر رجع إلى طنجة ، فسأله الشيخ لم رجعت ؟ فقال له : يا سيدي من حضر عليك لا يقنعه غيرك . مع أنه وجد بفاس شيوخ السيد المترجَم له .
ما تولى وظيفة حكومية قط ، بل كان ينهى عن توليها ، لأن فيها مساعدة للمستعمرين . وكان يشدد النكير على من يتولى وظيفة القضاء من تلامذته لانتشار الفساد في طبقة القضاء .
أنشأ زاويته الصديقية على أرض وهبها له السلطان عبد العزيز ملك المغرب ، وكان بناؤها عام 1319 للهجرة ، وبنى في عهده زاوية بأصيلا والعرائش .
وزاوية فاس أنشأها العارف الكبير سيدي محمد أيوب تلميذ جده سيدي أحمد وجعلها لشيخه وتلا مذته بعده ، وزاوية تطوان أنشأها مريدو والده سيدي الحاج الصديق ثم آلت إليه بعده . وزاوية سلا اشتُريت أرضها في عهده وبنيت بعد وفاته . وزاوية زعير بنيت في عهد ولده سيدي أحمد بن الصديق .
وأنجب أولاداً علماء هم :
السيد أحمد
السيد عبد الله
السيد محمد الزمزمي
السيد عبد الحي
السيد عبد العزيز
السيد حسن
والسيد إبراهيم
كان رحمه الله صاحب كرامات كثيرة وشجاعة عالية متمسكاً بالحق . فمن ذلك :
أنه حارب الإستعمار في وقت كان الفرنسيون يقبضون على المغرب بيد من حديد ، وكان المغاربة إذا أراد أحدهم أن يسافر إلى مصر يذهب إلى فرنسا ليحصل على إذن الخروج إلى مصر أو غيرها من البلاد العربية . أما من المغرب فتمنع فرنسا أي مغربي من الخروج إلى البلاد العربية ، ففي هذا الحال الشديد سافر السيد المترجَم له إلى المؤتمر الإسلامي بمصر من طنجة كما سبق ، وفي هذه الحالة الشديدة بعث ابنه السيد أحمد إلى مصر ليتعلم فيها من طنجة ، وبعث بعد ذلك أولاده الثلاثة إلى مصر : السيد عبد الله والسيد عبد العزيز والسيد محمد الزمزمي .
ولما قام عبد الكريم الريفي بثورته ضد الفرنسيين والإسبان ، كان السيد المترجَمُ له يساعده ، وأمر مريديه بقبيلة انجرة أن يحاربوا معه ، وكانوا خمسة آلاف أو أكثر ، وأنزلوا بالإسبان هناك هزيمة فاجعة . وكان له طبيب صديق اسمه محبوب ، حرَّضه على الذهاب إلى الريف لمعالجة جرحى المجاهدين ، وكان الطريق مخوفاً ، لأنها تمر بالجيش الإسباني فسهل له الطريق مع بعض مريديه ، حتى وصل إلى الريف سالماً وأدى مهمته هناك .
وكان الأمير عبد الكريم الخطابي يبعث إليه الرسائل يستفتيه في أسرى الإسبان والفرنسيين الذين وقعوا تحت يده ، ماذا يصنع بهم ، فكان يجيبه بالحكم الشرعي المقرر في ذلك ، وتكررت بينهما المراسلات في هذا الشأن وغيره مما يتعلق بقبيلة غمارة وغيرها .
وتكونت بمصر جمعية لمساعدة الأمير عبد الكريم الخطابي مادياً ، واتصلوا بالمغاربة الذين بمصر يطلبون منهم أن يرسلوا مبلغ سبعة آلاف من الجنيهات جمعها الأمير عمر طوسون إلى الأمير عبد الكريم ، فاتصلوا بعائلة الحلو والتازي وبناني وبن شقرون وغيرهم ، فاعتذروا عن القيام بهذه المهمة خوفاً على عائلاتهم بالمغرب أن يلحقهم ضرر من الفرنسيين . فاتصل الأمير عمر طوسون بالسيد أحمد نجل السيد المترجَمِ له وطلب منه أن يتصل بوالده الذي رحب بالموضوع وقال أنه مستعد أن يسلم المبلغ للأمير عبد الكريم ويبعث لهم إمضاءه بخطه أنه استلمه .
ومن كراماته أنه امتنع عن أداء ضريبة البيت الذي يسكنه لأن الفرنسيين يتولون أخذها وبعثت إليه إدارة الضرائب الفرنسية تطالبه بأداء الضريبة فلم يجبها ، وكتب إلى السلطان مولاي يوسف باعتباره رئيس البلاد خطاباً ذكر فيه أنه يساعد الحكومة في حفظ الأمن لأنه يعلم الناس دينهم ، ويحضهم على الإستقامة والتزام السلوك القويم ، وما طالب الحكومة قط أن تعطيه أجراً على ذلك ولا يريد أن يطلبه ، فلماذا يطلب منه أن يدفع ضريبة عن بيت يسكنه ؟ فلم يطالبوه بعد بالضريبة .
ومن كراماته أنه أخبر عن زوجته أنها نالت الولاية قبيل وفاتها بلحظات وقد توفيت ليلة سبع وعشرين من رمضان سنة 1341 للهجرة . وفي شهر شوال سنة 1354 للهجرة توفي السيد المترجَم له ، وأراد أولاده أن يدفنوه بجانبها بالزاوبة ، فلما حفروا عنها وجدوها كأنها دفنت في تلك الساعة لم يتغير منها شيء ، حتى الكفن لا يزال كأنه جديد .
وقد حرر رضي الله عنه رقاباً كثيرة استرقها سارقوها اللصوص من أهاليهم حيث كانوا يذهبون إلى مراكش أو غيرها ويسرقون الصغار ثم يبيعونهم في طنجة أو غيرها من البلاد .
وكانت بعض هذه الخادمات تأتي إلى السيد المترجَم له هاربة من عسف أسيادها وظلمهم ، فيشتريها منهم ويعتقها .
وقد شهد له علماء عصره بالتقدم في العلم والمعرفة وبقوة الحافظة . من ذلك أن العلامة الشيخ عباي بناني من أكابر علماء القرويين طلب منه بعض مريدي السيد بفاس أن يصدر فتوى تتعلق بنزاع في الزاوية فسألهم هل يراها السيد ؟ قالوا : نعم . قال : إذن أحتاط فيها لأن السيد في العلم مخيف .
وحضر إلى طنجة شيخ الجماعة بفاس مولاي عبد الله الفضيل وزار السيد في بيته ، وكان مشهوراً بعلم الأصول فأراد السيد أن يناقشه في هذا العلم على سبيل المؤانسة والمكارمة ، فقال له يا سيدي أنا عالم في الدرس وبالملزمة فإن خرجت عن ذلك فلا أستحضر شيئاً .
وكان الشيخ عبد الكريم الرافعي الجديدي من المحققين في علم الأصول ، وكان يقول : ليس في المغرب من يعرف علم الأصول ، مع أنه قد زار فاس وعرف علماءها ، والرباط وغيرها من بلاد المغرب ، حتى جاء إلى طنجة وزار السيد في بيته وتذاكرا في مسألة المناسب وتقسيمه إلى ضروري وحاجي وتحسيني ، فسمع من السيد ما بهره فلما خرج من عنده قال : هذا يعرف علم الأصول واعترف له .
ولما توفي السيد المترجَم له قال الشيخ أبو شهيب الدكالي في درسه بالرباط وهو من أكابر علماء المغرب : ( مات اليوم العالم الوحيد )
وكان ينوب أحياناً عن قاضي طنجة في خطبة الجمعة بالجامع الأعظم . وفي بعض الجمع التي ناب فيها عن القاضي ، بينما هو يريد أن يرقى المنبر ، جذبه من خلفه بعض الناس وقال له : ( اعرف من أنت ) ، وكان في المصلين عالمان كبيران لهما قدرهما ووزنهما في المغرب ، فارتجل خطبة واستمر يلقيها في فصاحة وطلاقة ، وطال الوقت بحيث لما سلم من صلاة الجمعة أذن المؤذن لصلاة العصر فاندهش الناس لقوة حافظته وسرعة بديهته .
ولما توفي انقلب المغرب رأساً على عقب وأباحت فرنسا الدخول لطنجة بدون جواز لحضور جنازته ، فجاء الناس من كل جانب ، وكانت جنازته عظيمة ما رؤي مثلها ، كان المشيعون من الكثرة بحيث وصل جثمانه إلى الجامع الأعظم وآخر المشيعين قرب بيته وبينهما مسافة شاسعة .
وكان لهيبة الجنازة وروعتها أن النصارى واليهود الذين رأوها بكوا بكاء شديداً ، حزناً على السيد صاحب الترجمة لأنه كان مشهوراً بخلقه الحسن ، وحلمه العظيم ، وكرمه الفائق .
حضر إليه مرة في بيته يهودي يشكو من أحد مريديه فاستقبله استقبالاً حسناً ، وطيب خاطره ، ووعده بإنهاء مهمته على ما يرام ، فلما خرج اليهودي من عنده قال : لولا أخاف من غضب الحاخام لقلت هذا السيد هو موسى عليه السلام . وذلك لما رأى عليه من الجلالة والمهابة والخلق الكريم ، نفعنا الله ببركته .
هذا آخر ما يسر الله نقله من ترجمة السيد الإمام محمد بن الصديق الإدريسي الشاذلي رضي الله عنه . والحمد لله رب العالمين
منقول من كتاب الدرر النقية في أذكار وآداب الطريقة الصديقية ، نقلاً عن الكتب المؤلفة في مناقبه من قبل بعض مريديه :
العلامة الفقيه الشيخ العربي بو عياد
العلامة الفقيه العربي بن المبارك العبادي
الفقيه الشيخ العياشي سكيرج
الفقيه الشيخ محمد بن الأزرق
وجمع هذه الكتب كلها مع زيادة عليها ولده السيد أحمد في كتابين ، صغير اسمه ( التصور والتصديق ) وهو مطبوع ، وكبير اسمه ( سبحة العقيق ) وهو مخطوط .