محمد بن حبيب البوزيدي
نسبه الشريف
هو سيدي محمد بن الحبيب بن عبد الله بن أحمد بن زيدان بن الصغير بن الجيلالي بن عبّو بن عبد الله بن أحمد بن أمحمد بن عبد الرحمن بن علي بن عبد المالك بن إبراهيم بن عامر بن عثمان بن إسحاق بن علي بن سيدي بوزيد الغوث (دفين آفلو و إليه ينسب لقب العائلة البوزيدية) بن علي بن المهدي بن سفيان بن يسّار بن موسى بن عيسى بن محمد بن موسى بن سليمان بن موسى بن محمد بن عيسى بن إدريس الأصغر بن إدريس الأكبر بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن سيدنا الحسن السبط بن سيدنا علي بن أبي طالب و سيدتنا فاطمة الزهراء بنت سيدنا النبي محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم.
مولده و نشأته 1824م / 1239هـ
ولد سيدي محمد بن الحبيب البوزيدي بجنوب مدينة مستغانم بقرية البساتين المعروفة الآن "بدبدابة" و بالتحديد بجنان "تكارلي" سنة 1824م / 1239هـ.
أول نشأته نشأ تحت تربية أبيه سيدي الحبيب الذي كان من أشهر الفقهاء و العارفين بالله, إذ تلقى مبادئ التعليم منه ثم انتقل بعد ذلك إلى قرية "قيراط" بضواحي مستغانم و تتلمذ هنالك على يد العارف بالله الشيخ سيدي الشارف بن تكّوك فقرأ القرآن و علومه و الفقه و الحديث.
سياحته و اجتماعه بشيخه 1844م / 1259هـ
في هذه المدة, كان سيدي محمد البوزيدي يتفقد أهله من حين إلى آخر, و ذات يوم قصد السوق مع أبيه فقبضت عليه السلطات الاستعمارية الفرنسية بتهمة أنه يتسوق إلى المدينة و ينقل الأخبار لرجال المقاومة تحت قيادة الأمير عبد القادر الجزائري, و كان سبب هذه التهمة رجل عميل للسلطات العسكرية الفرنسية, فمكث رضي الله عنه في السجن بعض الأيام تحت التعذيب و كان عمره لم يتجاوز العشرين, ثم أفرج عنه بتدخل أخد أخواله "الخواخة" أي من بني "يخّو" ثم نصحه بمغادرة المدينة و إلا سيقتل, فغادرها متجها نحو الغرب الجزائري حتى وصل إلى تلمسان و نزل بضريح أبي مدين شعيب الأندلسي بالعبّاد وقد نقل سيدي أحمد ابن عليوة رضي الله عنه ذلك عنه حيث قال: إن سبب سياحتي إلى المغرب كانت ببركات أبي مدين شعيب وبإذنه وذلك أني بت ليلة في ضريحه بعد أن تلوت شيئاً من القرآن وإذا به رضي الله عنه قد أتاني هو ورجل من أجدادي (سيدي بوزيد بن علي الغوث دفين آفلو) فسلما علي ثم قال لي: "اذهب إلى المغرب إنني سرحتك ! ", قلت له: "إن المغرب كثير السموم والحيات (حِِّسًا و معنى) وإنني لا أقدر أسكنه", فأخذ يمسح على جسدي بيده المباركة وقال لي: "إذهب لا تخف إننا حفظناك مما يطرأ عليك !", فاستيقظت مرعوباً ومن ضريحه توجهت إلى المغرب فحصلت على ملاقاة الشيخ سيدي محمد بن قدور الوكيلي رضي الله عنه بزاويته بجبل كركر, ففتح الله على عين قلبه, فحصل على الفتح المبين و أصبح من المقربين لشيخه حيث قضى أربعين سنة من عمره في خدمته و لهذا كان رضي الله عنه كثيراً ما يأمر أتباعه بزيارة ضريح سيدي أبو مدين رحمه الله ويذكره بالفضل.
توليه الإرشاد و إدارة أمور زاوية شيخه 1884م / 1299هـ
لمّا قرب انتقال الشيخ سيدي محمد ابن قدّور الوكيلي رضي الله عنه إلى جوار ربه كان يردد هذه الكلمات: "أخذ البوزيدي الِقربة برباطها ! " و الِقربة هي وعاء من جلد الشاة للسقاية, و هذه إشارة واضحة بأن سيدي البوزيدي اخذ السّر من شيخه, ثم أذن الشيخ الوكيلي لبعض مريديه و الانصراف إلى أهلهم كسيدي عبد القادر بن عدة البوعبدلي دفين غيليزان و سيدي محمد بن مسعود من الغزوات و سيدي محمد الهبري دفين آحفير, ثم كلف من بعد ذلك سيدي محمد البوزيدي بأن يخلفه في مقامه و يشرف على زاويته و تربية أبنائه الصغار.
عمل سيدي محمد البوزيدي بوصية شيخه, فكان معلما و مرشدا و موجها و حكيما في التربية و تلقين الإسم الأعظم و كان لما يكثر عنده عدد المريدين و لا يجدون مكانا مُعِدًا للجلوس و ليس للزاوية ما تفرشه لهم, يأمر بقطع القطف و هو نوع من الحشيش الأخضر الغليظ و يقول لهم: "أجلسوا, هذا سندس و إستبرق ! ", و بقي سيدي محمد البوزيدي على رأس الزاوية مؤدياً ما كُلف به بضع سنين إلى أن تصّدر أبناء شيخه بوشاية كاذبة و حسدا من بعض الأشقياء يتهم فيها الشيخ بأشنع الأعمال و حرضهم على قتل سيدي محمد البوزيدي لأنه كما يقول أخذ زاوية أبيهم و حّل مكانهم.
لمّا علِم الشيخ سيدي محمد البوزيدي بذلك من أحد مريديه المخلصين, عزم على الرحيل و قال له: "هذه علامة الإذن و الانصراف حيث شاء الله و الحمد لله قد وفيت بما كلّفني به شيخي في تصدير أبنائه و الآن علمت علم اليقين أنهم قد بلغوا سن رشدهم فلا خوف عليهم".
استقراره بوردانة و ظهور أمره بها
ثم غادر سيدي محمد البوزيدي جبل كركر و زاوية شيخه بالليل و لا يمشي إلا تحت ظلام جناحه و كان لا يتحرك بالنهار لئلا يدركه طلاب قتله إلى أن وصل إلى قرية "وردانة" بإقليم الناضور فدخل على أهلها وقت العشاء بالمسجد و طلب منهم الضيافة فسألوه عن نفسه و من أين أتى و عن شغله و مهنته فقال: "إني فقيه و معلم الدين للصبيان", فلما أكرموه بالطعام, صلى بهم صلاة العشاء, ثم تأسفوا لعدم إيوائه بمنازلهم خوفا عليه من بعض الغارات لبعض القبائل و طلبوا منه المبيت بالمسجد و أخبروه بأن المسجد مسكونا من شيطان جان فتك بكثير من معلمي القرآن للصبيان, فقالوا له: "إن كنت كما تقول, فها أنت و المسجد و إلا انصرف لتنجو بحياتك", فأجاب: "و ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله, أنا و هذا الظالم تجري علينا جميعا مقادير الله".
فتفرق الناس إلى منازلهم و بقي سيدي محمد البوزيدي في غاية الأنس بالله حتى ظهر له هذا الشيطان في صوت مرعب يخرج من فيه و أنفه النار و الدخان, فتلا سيدي محمد البوزيدي سورة الإخلاص, فثبته الله بها و ربط على قلبه فكرر سورة الإخلاص و هو يوجه سبابته اليمنى حيثما تحرك الجان, فأحرقه الله تعالى بنور و بركة هذه السورة إلى أن صار الجان حفنة من رماد, ثم نام رضي الله عنه, و قرب الفجر قام و توضأ و تلا ورده من النوافل و صلى صلاة الصبح بالمسجد ثم جاء أهل القرية ليروا ما آل إليه حال الشيخ الفقيه فوجدوه في اطمئنان يذكر ورده, فتعجبوا و سألوه عمّا كان من الظالم فقال لهم: "لقد طهّر الله هذا المسجد منه" و أشار إلى تلك الحفنة من الرماد و قال: "أدفنوها ! ", ثم استأذنهم بالانصراف فقسموا بالله عليه ألا يذهب حتى يُعَلِّم أبنائهم و تقدم كبير القوم و إسمه محمد بن يحيى الورداني و عرض عليه إبنته فاطمة الوردانية فتزوجها سيدي محمد البوزيدي, و هنا في هذه القرية "وردانة" لُقِّب سيدي محمد البوزيدي بسيدي حمّو الشيخ لأن في شمال المغرب يطلق السكان الريفيون على من يحمل إسم محمد بِحمّو.
انتشر خبر سيدي محمد البوزيدي و ما أجراه الله على يده من تلك الكرامة و عَّم الخبر جميع شمال المغرب, فلما سمع فقراء زاوية كركر بذلك ذهبوا إليه فأمرهم بالرجوع إلى زاويتهم قائلا لهم: "إنني لست من الماكثين هنا, بل أنا عازم على الرحيل إلى وطني", فصارت بعد ذلك قرية وردانة قبلة معنوية يتوجه إليها الناس لطلب العلم و تخرّج على يد الشيخ سيدي محمد البوزيدي شيوخ في علم الشريعة و علم التصوف منهم عدد كثير من العلماء و العارفين بالله.
عودته إلى أرض الوطن حوالي 1894م / 1309هـ
لما رأى سيدي محمد البوزيدي أن الدعوة إلى الله قد تمت و أقبل عليها جمهور غفير و نوَّر الله بها قلوب العباد و عمَّ النفع على البلاد, أدرك أن مهمته انتهت في هذه القرية فتوجه برفقة أهله نحو الجزائر و حطَّ رحاله بمسقط رأسه مستغانم, و سكن ببيت أمام مسجد سيدي يعقوب و كتم أمره و لم يدع أحدا إلى علم القوم, بل اكتفى بتعليم القرآن للصبيان و في هذه الأيام بالذات كان لقاءه بتلميذه سيدي الشيخ أحمد بن مصطفى العلوي و شريكه في التجارة سيدي بن عودة بن سليمان الذي كان أول من اتصل به حين تفرس فيه الإمامة و الدلالة على الله بالإرشاد.
في يوم من الأيام, نزل على مستغانم ضيف من أجّل القوم معرفة من صفاقص ببلاد تونس حرسها الله, و كان أهالي مستغانم يحتفلون برجال الخير و العلم و الصلاح و يلتفون حولهم حتى صارت مستغانم تلقب بمصر الصغيرة, و رفع النداء من المنادي أن "سيدي محمد ظافر المدني الصفاقصي نازل بزاوية سيدي الحرَّاق بن كريتلي الموجودة بتجديت قرب ضريح سيدي السنوسي, فهلم للاجتماع و الانتفاع".
أثناء حفل الاستقبال بزاوية سيدي الحرَّاق بن كريتلي الذي كان آنذاك على قيد الحياة و كان من أهل الخير و الصلاح ذا مال أنفقه جميعا في سبيل الله في المشاريع الخيرية و كانت مأدبة الضيافة للضيف التونسي و للحاضرين من الأهالي على نفقته, فتغيب سيدي الحرَّاق عن الجمع بعض اللحظات ليأمر ببعض الخدمات للضيوف, فناداه سيدي محمد المدني الصفاقصي بأعلى صوته: "يا سيدي الحرَّاق" 3 مرات, فرَّد عليه سيدي محمد البوزيدي الذي كان من الحاضرين في مؤخرة المجلس: "لا يكون الحرَّاق حرَّاقاً في طريقتنا حتى يحرق الكون من عرشه إلى فرشه ! ", فتعجب سيدي محمد المدني الصفاقصي من هذا الكلام و سأل من الرجل؟ فأجابه من كانوا بحاشيته من العلماء أن هذا يسمى بالبوزيدي الدرَّار أي أنه يعلم القرآن للدراري ( الصبيان), فأجاب سيدي محمد المدني: "بل هذا معلم للكبار فائتوني به", فتقدم سيدي محمد البوزيدي و جلس بقربه و تناقشا في علم القوم.
و لما تبين في غاية الوضوح أمر الشيخ سيدي محمد البوزيدي للشيخ محمد المدني الصفاقصي, قام هذا الأخير خاطباً في الناس إعجاباً بأمر الشيخ البوزيدي ثم قال: "أيها الإخوان, غداً إن شاء الله يكتب كل أحد منكم في ورقة كل ما خطر بباله و يكتب إسمه و يأتي بها إلي", فكلف سيدي البوزيدي تلميذه سيدي أحمد العلوي أن يكتب في ورقة ما يخطر بباله, فلما كان الغد, حضر الناس و معهم الأوراق و وضعوها أمام الشيخ المدني, فأطلع عليها فوقف عند ورقة مكتوب عليها:
إن شئت بنظرة تسقي الأنام و إن شئت بلمحة تمحي العالم
فأمسكها بقبضة يده و قال: "خذوا هذه الأوراق و احرقوها بالنار" ثم قال: "من كتب هذه الورقة؟" قالوا له: "هو مريد ذلك الرجل الذي تكلم بالأمس", فتعجب من أمر أهالي مستغانم ثم بادر بالكلام جهرا بعد أن حمد الله و أثنى عليه و صلى على رسوله الكريم قائلاً: "يا أهالي مستغانم, كيف غفلتم عن رجل إمام عصره و واحد في زمانه, فو الله الذي لا إله إلا هو لو علمت أن رجل مثل هذا (و أشار باحترام إليه) موجود في هذه المدينة لا أدخلها و إن كان لا بد من دخولها فبإذنه...ثم ختم كلامه بقوله: يا أهل مستغانم, إن كان مرادكم الله فبلدتكم عامرة و أنا فلا تنتظروني بعد هذا اليوم ! ", فذهب سيدي محمد المدني و لم يرجع إلى مستغانم منذ ذلك الوقت.
ففي هذه الليلة و وسط هذا الجمع الغفير ظهر من جديد أمر الشيخ سيدي محمد البوزيدي و تعلق به و تتلمذ عليه بعض الأفراد من أبرز و أخير و أطهر عائلات مستغانم, فشعر الشيخ البوزيدي بالوجوب عليه بالإرشاد على الله بمن تعلق به إيمانا و اعتقادا فأحيى من جديد الطريقة الدرقاوية و كثر تابعيه و خاصة العارفين من كبار الشيوخ من أمثال سيدي محمد بن يلس التلمساني شيخ الطريقة الدرقاوية بتلمسان و سيدي العربي الشوار من تلمسان كذلك و شيوخ آخرين من شتى نواحي البلاد الغربية و شمال المغرب و أشعت الدعوة البوزيدية بأنوارها الشرق الأوسط و القائمة طويلة و فتح الله على الكثير منهم و بفضلهم انضم إلى الطريقة الدرقاوية كثير من العروش و القبائل أمثال بني زروال و أولاد أحمد و السلاطنية و السدايرية و آل العتبي و جمع غفير من الخلائق أفرادا و جماعات.
سلوكه و أخلاقه
كان الشيخ البوزيدي معروفا و موصوفا بالزهد, أتاه يوما مريده الفقير إلى الله تعالى سيدي أحمد بن إسماعيل و قال لشيخه: "إن الحاكم للإدارة الفرنسية يطلب منك الحضور عنده", فرد عليه الشيخ البوزيدي: "مالي و الحاكم الفرنسي و ما حاجته عندي؟", فرد عليه: "مقابلة ودية و استطلاعية على حالك فقط", فجمع الشيخ قوته و أنفاسه و ذهب بشق الأنفس و لما وصل إلى مبنى الإدارة وجد رجلا من المستخدمين عند الحاكم ينتظره فأدخله عليه, و بعد دردشة قصيرة, قدم الحاكم للشيخ هدية تتمثل في برنسين موضوعين في ظرف, و عند خروجه من المبنى, مشى خطوات فرأى رجلا شبه عاري فأخذ برنسا و ستره به, ثم خطى خطوات قليلة و ظهر له رجلا آخر في حالة الأول فكساه الشيخ البرنس الثاني و رجع إلى زاويته, ثم جاء بعد ذلك مستخدم الإدارة الفرنسية ليطلع ما فعل الشيخ بالبرنسين فوجده على هيئته المعتادة, فسأل الفقراء و أخبروه ما فعل الشيخ مع الرجلين العاريين و ما قاله رضي الله عنه في ذلك: "جاء البرنسان من الله و عادا إليه و الله لا يضَّيع أجر المحسنين ! ".
كان الشيخ البوزيدي لا يملك سوى عباءة أو جبة واحدة فقط, و جاءه ذات يوم فقراء من مريديه, فخرج إليهم مرتديا ثوب زوجته, فتحيروا و تعجبوا و سألوه, فقال لهم: "غسلت جبتي و ليس لي ما ألبسه إلا ما ترون", فلام الفقراء أنفسهم بالغفلة عن أبيهم الروحي و هم يلبسون أفخر الثياب و لكونهم خصوصا من كبار الأغنياء و الأثرياء بمدينة مستغانم, فتسارعوا كلهم و رجعوا من حينهم إلى شيخهم كل منهم حامل افخر الثياب و ما أخذ الشيخ إلا ثوب واحد و أمرهم بأن يتصدقوا بالبقية على ذويهم و أهاليهم المحرومين.
كان الشيخ البوزيدي ذات يوم مدعوا إلى حفل زفاف, فأجاب الدعوة و حضر المأدبة, و جاء إلى العرس شيخ من شيوخ التبرك مع تلامذته, و قبل أن يدخل, أخبروه بأن الشيخ البوزيدي حاضر, فأقسم بالله أن لا يدخل المنزل هو و تلامذته حتى يخرج منه الشيخ البوزيدي, فاستشار صاحب العرس زوجته فأجابته: "سأصنع طعاما للشيخ البوزيدي يتغذى به هو أهله, فاصرفه بهذه الكيفية الجميلة", فلما أحضر صاحب العرس طبق طعام من كسكسي إلى الشيخ البوزيدي تقبله القبول الحسن و دعا للعريسين بالمودة و حسن المعاشرة على الدوام و لصاحب العرس بالخير و البركة و انصرف, ثم لم يقصد الشيخ البوزيدي منزله ليطعم بهذا الطعام أهله, بل أطلعه الله تعالى على سوء المعاشرة و العداوة التي كانت بين صاحب العرس و أخت له لم يدعها للحضور إلى العرس لتفرح بزواج ابن أخيها, فذهب إليها الشيخ البوزيدي و خرج إليه زوجها فقدم له الطبق و قال له: "إن صهرك, أخا زوجتك يعتذر لكما عن هذا النسيان و يدعوكما فورا إلى العرس, فلما سمعت زوجة الرجل كلام الشيخ البوزيدي غمرتها الفرحة و السرور و زغردت و ذهبت لتشارك في هذه الفرحة, ثم تساءل أهل الوليمة عمن دعاها, و ما عرفوا ذلك إلا من خلال الطبق الذي قدموه للشيخ البوزيدي حيث عاد إليهم مملوءا بالحلوة فعلموا بذلك صاحب الفعل الحسن و مصلح ذات البين.
كان الشيخ البوزيدي يمشي ذات يوم بشارع معظم المحلات التي توجد به يملكها يهود, فسقط أمامه يهودي على الأرض و كان متقدما في السن, فأسرع إليه الشيخ البوزيدي و ساعده على القيام و هو يمسح عن ثيابه الغبار و وضع على رأسه قبعته مرددا كلمة: "لا بأس عليك, لا بأس عليك", فإذا التجار اليهود يندهشون من هذه المعاملة الحسنة من طرف رجل حامل لواء الشريعة المحمدية, و منذ ذلك اليوم, كلما مرَّ عليهم الشيخ البوزيدي حيّوه بأسمى التحية و التقدير و الاحترام.
ذات يوم قال أحد مشايخ البركة للشيخ البوزيدي: "رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في المنام, و قال لي إن البوزيدي من أصحاب النار, فرد عليه الشيخ البوزيدي بكل رحابة صدر و بوجه طلق و بالابتسام و البشاشة: "سيدي, أصحيح رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال بأنني من أصحاب النار؟ جازاك الله خيراً, فقد كنت أظن أن أمثالي ليسوا مذكورين عند رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا يعبأ بهم و لكن الحمد لله على كوني مذكورا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنه مهتم بذكري و أمري فهو الشفيع المشفع في العصاة و المذنبين أمثالي, جازاك الله عني خيرا و السلام عليكم".
من بين فقراء سيدي الشيخ البوزيدي, سيدي مصطفى بن كريتلي الذي كان عضوا في مجلس الأمة زمن الإستعمار الفرنسي, فتهيأ ذات يوم في زيِّه الرسمي لاستقبال الوالي العام الفرنسي الذي كان في زيارة تفقدية لمدينة مستغانم, فأتاه شيخه سيدي البوزيدي و قال له: "أحمل عني هذه الحاويتين" و هي أمعاء الضأن بكبدهما و رئتهما و قلبهما, فحملهما و الدم يتقاطر منهما و الذباب يتطاير حولهما و سيدي مصطفى على قدر جلاله و عظمته في مجتمعه يتجول به الشيخ البوزيدي على تلك الحالة في أكبر شوارع مستغانم آنذاك, فلما وصلا إلى المطمر أو باب المجاهر الذي يفصل الحي الأوربي عن الحي الشعبي للسكان المحليين المسلمين, أوقفه الشيخ و قال له: "يكفيك يا بني, شكرا لك و أبشر لقد شفاك الله تعالى و عافاك من علة الكبرياء و العجب بالنفس و الإعتزاز و بالسلطة و الجاه, فنعم العبد لله أنت, إن الله تعالى جمع لبعض أنبياءه بين النبوة و الملك و لبعض أولياءه بين الولاية و الملك فما زادهم ذلك إلا افتقارا إلى الله تعالى و انكسارا له, مستمطرين رحمته و عافيته فيما بقي من أجلهم و عمرهم حتى يلقوه و هم أفقر الناس إليه سبحانه عّز و جّل, فتلك نعمة عظمى يتفضل الله بها على الذين أهّلهم إلى حضرة محبته و وداده التي لا يدخلها متكبر و أرضيت يا ولدي مولاك عّز و جّل و فزت بسعادة الدارين, حفظك الله و رعاك بعين رعايته فيما بقي من أجلك".
في يوم من الأيام قدم على الشيخ البوزيدي مريد من البادية لزيارته و هو متشوق للأكل اللذيذ الذي سيأكله في ضيافة شيخه, فنهض به الشيخ البوزيدي من المقام الأسفل إلى المقام الأسنى إذ أتاه بصحن فيه فول و قال له: "تقدم يا ولدي و كل ! " ثم أشار إلى بطنه و استطرد قائلاً: "ما هذا إلا مصران ذو رائحة كريهة فملأه بما وجدت و انهض في طلب الله تعالى بذكره ليلا و نهارا فلعل رحمة الله تشملك فتجذبك من سباتك و غفلتك إلى يقظة المعرفة و مشاهدة أنوار ربك ببصيرتك, فإذا انجلى ليلك منك طلع نهارك و أشرقت شمس هدايتك فلا تأفل و لا تؤول و لا تزول أبدا حتى تلقى الله و هو راضي عنك".
و قد كان يوما يتحدث إلى مريديه عن النفس و خداعها و أن لا يطمئن لها المريد إذا رأى فيها علامات الركون و التطوع إلى الطاعة إذ مكرها يفوق مكر الشيطان بأكثر من سبعين مكرا فلذا قال لهم ضاربا المثل بنفسه: "لا زالت تحدثني نفسي حديث الشباب و أنا قد بلغت ثمانين عاما و إني لأرى الشيطان يحتال لمخادعتي كما يحتال السارق بالليل على صاحب الدار".
وقعت للشيخ البوزيدي واقعة مؤلمة في مصيبة و رزية إبنه الذي قتل خطأ في احتفال المولد النبوي الشريف رميا بالرصاص في إحدى حلقات طلق البارود فلما حضر سيدي الشيخ محمد بن الحبيب البوزيدي إلى مصرع ابنه ورأى ابنه ملقى على الأرض ودمه ينزف قال له أحد الحاضرين: "سيدي تعالى لأريك قاتل ابنك", فرد عليه لشيخ بهذه العبارة: "اذهب يا كلوفي فإن قاتل ابني أعرفه وهو الذي حكم على كل نفس الموت!" و حمل ابنه ميتا وأقيمت له جنازة ولم يرفع أي شكوى ضد قاتل ابنه ودفنه محتسبا بقول الله تعالى: "وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا أ وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون".وسنبتدأ في الجزء 2
بالكرامات الخاصة بهذا الشيخ العظيم حتى نهاية النص ان شاء الله
نسبه الشريف
هو سيدي محمد بن الحبيب بن عبد الله بن أحمد بن زيدان بن الصغير بن الجيلالي بن عبّو بن عبد الله بن أحمد بن أمحمد بن عبد الرحمن بن علي بن عبد المالك بن إبراهيم بن عامر بن عثمان بن إسحاق بن علي بن سيدي بوزيد الغوث (دفين آفلو و إليه ينسب لقب العائلة البوزيدية) بن علي بن المهدي بن سفيان بن يسّار بن موسى بن عيسى بن محمد بن موسى بن سليمان بن موسى بن محمد بن عيسى بن إدريس الأصغر بن إدريس الأكبر بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن سيدنا الحسن السبط بن سيدنا علي بن أبي طالب و سيدتنا فاطمة الزهراء بنت سيدنا النبي محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم.
مولده و نشأته 1824م / 1239هـ
ولد سيدي محمد بن الحبيب البوزيدي بجنوب مدينة مستغانم بقرية البساتين المعروفة الآن "بدبدابة" و بالتحديد بجنان "تكارلي" سنة 1824م / 1239هـ.
أول نشأته نشأ تحت تربية أبيه سيدي الحبيب الذي كان من أشهر الفقهاء و العارفين بالله, إذ تلقى مبادئ التعليم منه ثم انتقل بعد ذلك إلى قرية "قيراط" بضواحي مستغانم و تتلمذ هنالك على يد العارف بالله الشيخ سيدي الشارف بن تكّوك فقرأ القرآن و علومه و الفقه و الحديث.
سياحته و اجتماعه بشيخه 1844م / 1259هـ
في هذه المدة, كان سيدي محمد البوزيدي يتفقد أهله من حين إلى آخر, و ذات يوم قصد السوق مع أبيه فقبضت عليه السلطات الاستعمارية الفرنسية بتهمة أنه يتسوق إلى المدينة و ينقل الأخبار لرجال المقاومة تحت قيادة الأمير عبد القادر الجزائري, و كان سبب هذه التهمة رجل عميل للسلطات العسكرية الفرنسية, فمكث رضي الله عنه في السجن بعض الأيام تحت التعذيب و كان عمره لم يتجاوز العشرين, ثم أفرج عنه بتدخل أخد أخواله "الخواخة" أي من بني "يخّو" ثم نصحه بمغادرة المدينة و إلا سيقتل, فغادرها متجها نحو الغرب الجزائري حتى وصل إلى تلمسان و نزل بضريح أبي مدين شعيب الأندلسي بالعبّاد وقد نقل سيدي أحمد ابن عليوة رضي الله عنه ذلك عنه حيث قال: إن سبب سياحتي إلى المغرب كانت ببركات أبي مدين شعيب وبإذنه وذلك أني بت ليلة في ضريحه بعد أن تلوت شيئاً من القرآن وإذا به رضي الله عنه قد أتاني هو ورجل من أجدادي (سيدي بوزيد بن علي الغوث دفين آفلو) فسلما علي ثم قال لي: "اذهب إلى المغرب إنني سرحتك ! ", قلت له: "إن المغرب كثير السموم والحيات (حِِّسًا و معنى) وإنني لا أقدر أسكنه", فأخذ يمسح على جسدي بيده المباركة وقال لي: "إذهب لا تخف إننا حفظناك مما يطرأ عليك !", فاستيقظت مرعوباً ومن ضريحه توجهت إلى المغرب فحصلت على ملاقاة الشيخ سيدي محمد بن قدور الوكيلي رضي الله عنه بزاويته بجبل كركر, ففتح الله على عين قلبه, فحصل على الفتح المبين و أصبح من المقربين لشيخه حيث قضى أربعين سنة من عمره في خدمته و لهذا كان رضي الله عنه كثيراً ما يأمر أتباعه بزيارة ضريح سيدي أبو مدين رحمه الله ويذكره بالفضل.
توليه الإرشاد و إدارة أمور زاوية شيخه 1884م / 1299هـ
لمّا قرب انتقال الشيخ سيدي محمد ابن قدّور الوكيلي رضي الله عنه إلى جوار ربه كان يردد هذه الكلمات: "أخذ البوزيدي الِقربة برباطها ! " و الِقربة هي وعاء من جلد الشاة للسقاية, و هذه إشارة واضحة بأن سيدي البوزيدي اخذ السّر من شيخه, ثم أذن الشيخ الوكيلي لبعض مريديه و الانصراف إلى أهلهم كسيدي عبد القادر بن عدة البوعبدلي دفين غيليزان و سيدي محمد بن مسعود من الغزوات و سيدي محمد الهبري دفين آحفير, ثم كلف من بعد ذلك سيدي محمد البوزيدي بأن يخلفه في مقامه و يشرف على زاويته و تربية أبنائه الصغار.
عمل سيدي محمد البوزيدي بوصية شيخه, فكان معلما و مرشدا و موجها و حكيما في التربية و تلقين الإسم الأعظم و كان لما يكثر عنده عدد المريدين و لا يجدون مكانا مُعِدًا للجلوس و ليس للزاوية ما تفرشه لهم, يأمر بقطع القطف و هو نوع من الحشيش الأخضر الغليظ و يقول لهم: "أجلسوا, هذا سندس و إستبرق ! ", و بقي سيدي محمد البوزيدي على رأس الزاوية مؤدياً ما كُلف به بضع سنين إلى أن تصّدر أبناء شيخه بوشاية كاذبة و حسدا من بعض الأشقياء يتهم فيها الشيخ بأشنع الأعمال و حرضهم على قتل سيدي محمد البوزيدي لأنه كما يقول أخذ زاوية أبيهم و حّل مكانهم.
لمّا علِم الشيخ سيدي محمد البوزيدي بذلك من أحد مريديه المخلصين, عزم على الرحيل و قال له: "هذه علامة الإذن و الانصراف حيث شاء الله و الحمد لله قد وفيت بما كلّفني به شيخي في تصدير أبنائه و الآن علمت علم اليقين أنهم قد بلغوا سن رشدهم فلا خوف عليهم".
استقراره بوردانة و ظهور أمره بها
ثم غادر سيدي محمد البوزيدي جبل كركر و زاوية شيخه بالليل و لا يمشي إلا تحت ظلام جناحه و كان لا يتحرك بالنهار لئلا يدركه طلاب قتله إلى أن وصل إلى قرية "وردانة" بإقليم الناضور فدخل على أهلها وقت العشاء بالمسجد و طلب منهم الضيافة فسألوه عن نفسه و من أين أتى و عن شغله و مهنته فقال: "إني فقيه و معلم الدين للصبيان", فلما أكرموه بالطعام, صلى بهم صلاة العشاء, ثم تأسفوا لعدم إيوائه بمنازلهم خوفا عليه من بعض الغارات لبعض القبائل و طلبوا منه المبيت بالمسجد و أخبروه بأن المسجد مسكونا من شيطان جان فتك بكثير من معلمي القرآن للصبيان, فقالوا له: "إن كنت كما تقول, فها أنت و المسجد و إلا انصرف لتنجو بحياتك", فأجاب: "و ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله, أنا و هذا الظالم تجري علينا جميعا مقادير الله".
فتفرق الناس إلى منازلهم و بقي سيدي محمد البوزيدي في غاية الأنس بالله حتى ظهر له هذا الشيطان في صوت مرعب يخرج من فيه و أنفه النار و الدخان, فتلا سيدي محمد البوزيدي سورة الإخلاص, فثبته الله بها و ربط على قلبه فكرر سورة الإخلاص و هو يوجه سبابته اليمنى حيثما تحرك الجان, فأحرقه الله تعالى بنور و بركة هذه السورة إلى أن صار الجان حفنة من رماد, ثم نام رضي الله عنه, و قرب الفجر قام و توضأ و تلا ورده من النوافل و صلى صلاة الصبح بالمسجد ثم جاء أهل القرية ليروا ما آل إليه حال الشيخ الفقيه فوجدوه في اطمئنان يذكر ورده, فتعجبوا و سألوه عمّا كان من الظالم فقال لهم: "لقد طهّر الله هذا المسجد منه" و أشار إلى تلك الحفنة من الرماد و قال: "أدفنوها ! ", ثم استأذنهم بالانصراف فقسموا بالله عليه ألا يذهب حتى يُعَلِّم أبنائهم و تقدم كبير القوم و إسمه محمد بن يحيى الورداني و عرض عليه إبنته فاطمة الوردانية فتزوجها سيدي محمد البوزيدي, و هنا في هذه القرية "وردانة" لُقِّب سيدي محمد البوزيدي بسيدي حمّو الشيخ لأن في شمال المغرب يطلق السكان الريفيون على من يحمل إسم محمد بِحمّو.
انتشر خبر سيدي محمد البوزيدي و ما أجراه الله على يده من تلك الكرامة و عَّم الخبر جميع شمال المغرب, فلما سمع فقراء زاوية كركر بذلك ذهبوا إليه فأمرهم بالرجوع إلى زاويتهم قائلا لهم: "إنني لست من الماكثين هنا, بل أنا عازم على الرحيل إلى وطني", فصارت بعد ذلك قرية وردانة قبلة معنوية يتوجه إليها الناس لطلب العلم و تخرّج على يد الشيخ سيدي محمد البوزيدي شيوخ في علم الشريعة و علم التصوف منهم عدد كثير من العلماء و العارفين بالله.
عودته إلى أرض الوطن حوالي 1894م / 1309هـ
لما رأى سيدي محمد البوزيدي أن الدعوة إلى الله قد تمت و أقبل عليها جمهور غفير و نوَّر الله بها قلوب العباد و عمَّ النفع على البلاد, أدرك أن مهمته انتهت في هذه القرية فتوجه برفقة أهله نحو الجزائر و حطَّ رحاله بمسقط رأسه مستغانم, و سكن ببيت أمام مسجد سيدي يعقوب و كتم أمره و لم يدع أحدا إلى علم القوم, بل اكتفى بتعليم القرآن للصبيان و في هذه الأيام بالذات كان لقاءه بتلميذه سيدي الشيخ أحمد بن مصطفى العلوي و شريكه في التجارة سيدي بن عودة بن سليمان الذي كان أول من اتصل به حين تفرس فيه الإمامة و الدلالة على الله بالإرشاد.
في يوم من الأيام, نزل على مستغانم ضيف من أجّل القوم معرفة من صفاقص ببلاد تونس حرسها الله, و كان أهالي مستغانم يحتفلون برجال الخير و العلم و الصلاح و يلتفون حولهم حتى صارت مستغانم تلقب بمصر الصغيرة, و رفع النداء من المنادي أن "سيدي محمد ظافر المدني الصفاقصي نازل بزاوية سيدي الحرَّاق بن كريتلي الموجودة بتجديت قرب ضريح سيدي السنوسي, فهلم للاجتماع و الانتفاع".
أثناء حفل الاستقبال بزاوية سيدي الحرَّاق بن كريتلي الذي كان آنذاك على قيد الحياة و كان من أهل الخير و الصلاح ذا مال أنفقه جميعا في سبيل الله في المشاريع الخيرية و كانت مأدبة الضيافة للضيف التونسي و للحاضرين من الأهالي على نفقته, فتغيب سيدي الحرَّاق عن الجمع بعض اللحظات ليأمر ببعض الخدمات للضيوف, فناداه سيدي محمد المدني الصفاقصي بأعلى صوته: "يا سيدي الحرَّاق" 3 مرات, فرَّد عليه سيدي محمد البوزيدي الذي كان من الحاضرين في مؤخرة المجلس: "لا يكون الحرَّاق حرَّاقاً في طريقتنا حتى يحرق الكون من عرشه إلى فرشه ! ", فتعجب سيدي محمد المدني الصفاقصي من هذا الكلام و سأل من الرجل؟ فأجابه من كانوا بحاشيته من العلماء أن هذا يسمى بالبوزيدي الدرَّار أي أنه يعلم القرآن للدراري ( الصبيان), فأجاب سيدي محمد المدني: "بل هذا معلم للكبار فائتوني به", فتقدم سيدي محمد البوزيدي و جلس بقربه و تناقشا في علم القوم.
و لما تبين في غاية الوضوح أمر الشيخ سيدي محمد البوزيدي للشيخ محمد المدني الصفاقصي, قام هذا الأخير خاطباً في الناس إعجاباً بأمر الشيخ البوزيدي ثم قال: "أيها الإخوان, غداً إن شاء الله يكتب كل أحد منكم في ورقة كل ما خطر بباله و يكتب إسمه و يأتي بها إلي", فكلف سيدي البوزيدي تلميذه سيدي أحمد العلوي أن يكتب في ورقة ما يخطر بباله, فلما كان الغد, حضر الناس و معهم الأوراق و وضعوها أمام الشيخ المدني, فأطلع عليها فوقف عند ورقة مكتوب عليها:
إن شئت بنظرة تسقي الأنام و إن شئت بلمحة تمحي العالم
فأمسكها بقبضة يده و قال: "خذوا هذه الأوراق و احرقوها بالنار" ثم قال: "من كتب هذه الورقة؟" قالوا له: "هو مريد ذلك الرجل الذي تكلم بالأمس", فتعجب من أمر أهالي مستغانم ثم بادر بالكلام جهرا بعد أن حمد الله و أثنى عليه و صلى على رسوله الكريم قائلاً: "يا أهالي مستغانم, كيف غفلتم عن رجل إمام عصره و واحد في زمانه, فو الله الذي لا إله إلا هو لو علمت أن رجل مثل هذا (و أشار باحترام إليه) موجود في هذه المدينة لا أدخلها و إن كان لا بد من دخولها فبإذنه...ثم ختم كلامه بقوله: يا أهل مستغانم, إن كان مرادكم الله فبلدتكم عامرة و أنا فلا تنتظروني بعد هذا اليوم ! ", فذهب سيدي محمد المدني و لم يرجع إلى مستغانم منذ ذلك الوقت.
ففي هذه الليلة و وسط هذا الجمع الغفير ظهر من جديد أمر الشيخ سيدي محمد البوزيدي و تعلق به و تتلمذ عليه بعض الأفراد من أبرز و أخير و أطهر عائلات مستغانم, فشعر الشيخ البوزيدي بالوجوب عليه بالإرشاد على الله بمن تعلق به إيمانا و اعتقادا فأحيى من جديد الطريقة الدرقاوية و كثر تابعيه و خاصة العارفين من كبار الشيوخ من أمثال سيدي محمد بن يلس التلمساني شيخ الطريقة الدرقاوية بتلمسان و سيدي العربي الشوار من تلمسان كذلك و شيوخ آخرين من شتى نواحي البلاد الغربية و شمال المغرب و أشعت الدعوة البوزيدية بأنوارها الشرق الأوسط و القائمة طويلة و فتح الله على الكثير منهم و بفضلهم انضم إلى الطريقة الدرقاوية كثير من العروش و القبائل أمثال بني زروال و أولاد أحمد و السلاطنية و السدايرية و آل العتبي و جمع غفير من الخلائق أفرادا و جماعات.
سلوكه و أخلاقه
كان الشيخ البوزيدي معروفا و موصوفا بالزهد, أتاه يوما مريده الفقير إلى الله تعالى سيدي أحمد بن إسماعيل و قال لشيخه: "إن الحاكم للإدارة الفرنسية يطلب منك الحضور عنده", فرد عليه الشيخ البوزيدي: "مالي و الحاكم الفرنسي و ما حاجته عندي؟", فرد عليه: "مقابلة ودية و استطلاعية على حالك فقط", فجمع الشيخ قوته و أنفاسه و ذهب بشق الأنفس و لما وصل إلى مبنى الإدارة وجد رجلا من المستخدمين عند الحاكم ينتظره فأدخله عليه, و بعد دردشة قصيرة, قدم الحاكم للشيخ هدية تتمثل في برنسين موضوعين في ظرف, و عند خروجه من المبنى, مشى خطوات فرأى رجلا شبه عاري فأخذ برنسا و ستره به, ثم خطى خطوات قليلة و ظهر له رجلا آخر في حالة الأول فكساه الشيخ البرنس الثاني و رجع إلى زاويته, ثم جاء بعد ذلك مستخدم الإدارة الفرنسية ليطلع ما فعل الشيخ بالبرنسين فوجده على هيئته المعتادة, فسأل الفقراء و أخبروه ما فعل الشيخ مع الرجلين العاريين و ما قاله رضي الله عنه في ذلك: "جاء البرنسان من الله و عادا إليه و الله لا يضَّيع أجر المحسنين ! ".
كان الشيخ البوزيدي لا يملك سوى عباءة أو جبة واحدة فقط, و جاءه ذات يوم فقراء من مريديه, فخرج إليهم مرتديا ثوب زوجته, فتحيروا و تعجبوا و سألوه, فقال لهم: "غسلت جبتي و ليس لي ما ألبسه إلا ما ترون", فلام الفقراء أنفسهم بالغفلة عن أبيهم الروحي و هم يلبسون أفخر الثياب و لكونهم خصوصا من كبار الأغنياء و الأثرياء بمدينة مستغانم, فتسارعوا كلهم و رجعوا من حينهم إلى شيخهم كل منهم حامل افخر الثياب و ما أخذ الشيخ إلا ثوب واحد و أمرهم بأن يتصدقوا بالبقية على ذويهم و أهاليهم المحرومين.
كان الشيخ البوزيدي ذات يوم مدعوا إلى حفل زفاف, فأجاب الدعوة و حضر المأدبة, و جاء إلى العرس شيخ من شيوخ التبرك مع تلامذته, و قبل أن يدخل, أخبروه بأن الشيخ البوزيدي حاضر, فأقسم بالله أن لا يدخل المنزل هو و تلامذته حتى يخرج منه الشيخ البوزيدي, فاستشار صاحب العرس زوجته فأجابته: "سأصنع طعاما للشيخ البوزيدي يتغذى به هو أهله, فاصرفه بهذه الكيفية الجميلة", فلما أحضر صاحب العرس طبق طعام من كسكسي إلى الشيخ البوزيدي تقبله القبول الحسن و دعا للعريسين بالمودة و حسن المعاشرة على الدوام و لصاحب العرس بالخير و البركة و انصرف, ثم لم يقصد الشيخ البوزيدي منزله ليطعم بهذا الطعام أهله, بل أطلعه الله تعالى على سوء المعاشرة و العداوة التي كانت بين صاحب العرس و أخت له لم يدعها للحضور إلى العرس لتفرح بزواج ابن أخيها, فذهب إليها الشيخ البوزيدي و خرج إليه زوجها فقدم له الطبق و قال له: "إن صهرك, أخا زوجتك يعتذر لكما عن هذا النسيان و يدعوكما فورا إلى العرس, فلما سمعت زوجة الرجل كلام الشيخ البوزيدي غمرتها الفرحة و السرور و زغردت و ذهبت لتشارك في هذه الفرحة, ثم تساءل أهل الوليمة عمن دعاها, و ما عرفوا ذلك إلا من خلال الطبق الذي قدموه للشيخ البوزيدي حيث عاد إليهم مملوءا بالحلوة فعلموا بذلك صاحب الفعل الحسن و مصلح ذات البين.
كان الشيخ البوزيدي يمشي ذات يوم بشارع معظم المحلات التي توجد به يملكها يهود, فسقط أمامه يهودي على الأرض و كان متقدما في السن, فأسرع إليه الشيخ البوزيدي و ساعده على القيام و هو يمسح عن ثيابه الغبار و وضع على رأسه قبعته مرددا كلمة: "لا بأس عليك, لا بأس عليك", فإذا التجار اليهود يندهشون من هذه المعاملة الحسنة من طرف رجل حامل لواء الشريعة المحمدية, و منذ ذلك اليوم, كلما مرَّ عليهم الشيخ البوزيدي حيّوه بأسمى التحية و التقدير و الاحترام.
ذات يوم قال أحد مشايخ البركة للشيخ البوزيدي: "رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في المنام, و قال لي إن البوزيدي من أصحاب النار, فرد عليه الشيخ البوزيدي بكل رحابة صدر و بوجه طلق و بالابتسام و البشاشة: "سيدي, أصحيح رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال بأنني من أصحاب النار؟ جازاك الله خيراً, فقد كنت أظن أن أمثالي ليسوا مذكورين عند رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا يعبأ بهم و لكن الحمد لله على كوني مذكورا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنه مهتم بذكري و أمري فهو الشفيع المشفع في العصاة و المذنبين أمثالي, جازاك الله عني خيرا و السلام عليكم".
من بين فقراء سيدي الشيخ البوزيدي, سيدي مصطفى بن كريتلي الذي كان عضوا في مجلس الأمة زمن الإستعمار الفرنسي, فتهيأ ذات يوم في زيِّه الرسمي لاستقبال الوالي العام الفرنسي الذي كان في زيارة تفقدية لمدينة مستغانم, فأتاه شيخه سيدي البوزيدي و قال له: "أحمل عني هذه الحاويتين" و هي أمعاء الضأن بكبدهما و رئتهما و قلبهما, فحملهما و الدم يتقاطر منهما و الذباب يتطاير حولهما و سيدي مصطفى على قدر جلاله و عظمته في مجتمعه يتجول به الشيخ البوزيدي على تلك الحالة في أكبر شوارع مستغانم آنذاك, فلما وصلا إلى المطمر أو باب المجاهر الذي يفصل الحي الأوربي عن الحي الشعبي للسكان المحليين المسلمين, أوقفه الشيخ و قال له: "يكفيك يا بني, شكرا لك و أبشر لقد شفاك الله تعالى و عافاك من علة الكبرياء و العجب بالنفس و الإعتزاز و بالسلطة و الجاه, فنعم العبد لله أنت, إن الله تعالى جمع لبعض أنبياءه بين النبوة و الملك و لبعض أولياءه بين الولاية و الملك فما زادهم ذلك إلا افتقارا إلى الله تعالى و انكسارا له, مستمطرين رحمته و عافيته فيما بقي من أجلهم و عمرهم حتى يلقوه و هم أفقر الناس إليه سبحانه عّز و جّل, فتلك نعمة عظمى يتفضل الله بها على الذين أهّلهم إلى حضرة محبته و وداده التي لا يدخلها متكبر و أرضيت يا ولدي مولاك عّز و جّل و فزت بسعادة الدارين, حفظك الله و رعاك بعين رعايته فيما بقي من أجلك".
في يوم من الأيام قدم على الشيخ البوزيدي مريد من البادية لزيارته و هو متشوق للأكل اللذيذ الذي سيأكله في ضيافة شيخه, فنهض به الشيخ البوزيدي من المقام الأسفل إلى المقام الأسنى إذ أتاه بصحن فيه فول و قال له: "تقدم يا ولدي و كل ! " ثم أشار إلى بطنه و استطرد قائلاً: "ما هذا إلا مصران ذو رائحة كريهة فملأه بما وجدت و انهض في طلب الله تعالى بذكره ليلا و نهارا فلعل رحمة الله تشملك فتجذبك من سباتك و غفلتك إلى يقظة المعرفة و مشاهدة أنوار ربك ببصيرتك, فإذا انجلى ليلك منك طلع نهارك و أشرقت شمس هدايتك فلا تأفل و لا تؤول و لا تزول أبدا حتى تلقى الله و هو راضي عنك".
و قد كان يوما يتحدث إلى مريديه عن النفس و خداعها و أن لا يطمئن لها المريد إذا رأى فيها علامات الركون و التطوع إلى الطاعة إذ مكرها يفوق مكر الشيطان بأكثر من سبعين مكرا فلذا قال لهم ضاربا المثل بنفسه: "لا زالت تحدثني نفسي حديث الشباب و أنا قد بلغت ثمانين عاما و إني لأرى الشيطان يحتال لمخادعتي كما يحتال السارق بالليل على صاحب الدار".
وقعت للشيخ البوزيدي واقعة مؤلمة في مصيبة و رزية إبنه الذي قتل خطأ في احتفال المولد النبوي الشريف رميا بالرصاص في إحدى حلقات طلق البارود فلما حضر سيدي الشيخ محمد بن الحبيب البوزيدي إلى مصرع ابنه ورأى ابنه ملقى على الأرض ودمه ينزف قال له أحد الحاضرين: "سيدي تعالى لأريك قاتل ابنك", فرد عليه لشيخ بهذه العبارة: "اذهب يا كلوفي فإن قاتل ابني أعرفه وهو الذي حكم على كل نفس الموت!" و حمل ابنه ميتا وأقيمت له جنازة ولم يرفع أي شكوى ضد قاتل ابنه ودفنه محتسبا بقول الله تعالى: "وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا أ وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون".وسنبتدأ في الجزء 2
بالكرامات الخاصة بهذا الشيخ العظيم حتى نهاية النص ان شاء الله